هِجَاءُ النَّاس..
استهواني - في أول النشأة - من أنواع الأدب، أدبُ الهجاء، نثرا وشعرا، وكنتُ أميز نوعا خاصا منهُ، تَصِحُّ تسميته: "هجاء الناس"، بخاصية الإيغال في التعميم..
وقد ضرب عدد من مشاهير الشعراء، ومغموريهم بأسهم في هذا النوع، على اختلاف في الأساليب، منهم: الشَّنْفَرَى ـ المُتَنَبِّي ـ الأُحَيْمِرُ السَّعْدِي ـ أبو بكر محمد ابن هاشم الخالدي ـ وزميلي القاضي علي بن عبد العزيز الجُرْجَانِي، ولِلْهَجَّائِين الموريتانيين نصيب فيه، ولعل القصيدة "البَادَّة" منه..
الأمثلة من هذا النوع الأدبي "هجاء الناس" كثيرة في أدب العرب النثري والشعري، ولكني أهملت محفوظي منه منذ كرهتُ ملة القوم، حتى نسيت جله:
أورد الإمام ابن الجوزي في كتابه "القُصَّاص والمذكِّرين" بسندٍ عن عثمان الوراق، قال":رأيت العُتَّابي يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام، فقلت له: ويحك أما تستحي؟ فقال لي: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر، أكنت تحتشم أن تأكل وهي تراك، قال: فقلت: لا، قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر، فقام فوعظ وقص حتى كثر الزحام عليه، ثم قال لهم: روي لنا من غير وجه أن من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار، قال: فما بقي منهم أحد إلا أخرج لسانه يومىء به نحو أرنبته، ويقدره هل يبلغها، فلما تفرقوا قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر.."..
قال أحد "عقلاء المجانين" لم يُسَمِّه أبو القاسم النيسابوري، عند إيراد خبره عن مالك بن دينار:
إِنَّ مَن قَدْ أَرَى عَلَى صُوَّرِ النَّـــا ـ ـ سِ، وَإِنْ فُتِّشُوا فَلَيْسُوا بِنَاسِ..
قال صديقي دعبل الخزاعي:
إِنِّي لَأَفْتَحُ عَيْنِي حِينَ أَفْتَحُهَا ـ ـ عَلَى كَثِيرٍ، وَلَكِنْ لَا أَرَى أَحَدًا..
عند الناس أن منشأ "هجاء الناس" مَرَضِي نفسي، ولهذا مستند في الحديث الصحيح: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل هلك الناس، فهو أهلكُهم" على رواية الرفع في الكاف، وهي الأشهر، وعندهم أن كل تعميم يكتنفه خطأ كثير، وحاصلٌ عندي من ممارسة مذهب "هجاء الناس" وغوصي فيما وراء الطبيعة من أحوال أئمته أنه تطرف قولي عنيف..
وعند الهَجَّائِين رأي آخر: وفي المحكي الثقافي الموريتاني أن قبيلة أصاب الجنون كل أشخاصها باستثناء واحد، فعمدوا إليه وشدوا وثاقه، لأنه المجنون في أعينهم..
اكتشفتُ سنة ماضية حلقة في أحد جوامع نواكشوط يُدَرِّسُ فيها شيخٌ صحيحَ البخاري بين المغرب والعشاء، فأخذتُ نفسي بحضورها، فكان الشيخ في شرحه وردوده عند ذكر أي نقيصة أو عادة سيئة مخالفة للشرع أو الذوق في رأيه، يقول: "ذَاكْ شَقَايْلْ أَهَلْ لخْيَامْ"، ولم تمض حلقات كثيرة حتى اكتشفت غُلُوَّه في غير ذلك، فتركتُ حلقته، وعرفتُ أن الغلو في الدين، وفِي أوجه الحياة الأخرى يخرجان من مشكاة واحدة..
لم يَرَ الصُّلحاء والفضلاء، وأهل العلم والفكر في أي عصر أحوال مجتمعاتهم بخير، لكن المدينة الفاضلة بقيت تصورا فلسفيا ذهنيا لدى افلاطُون، ومن بعده الفارابي، ولعلماء وصلحاء هذه البلاد سبح طويل، قديما وحديثا، في نقد سلوك المجتمع وتوجيهه..
من الموريتانيين قديما من قال:
فَمَا أَوْجَبَ المَوْلَى عَلَيَّ صِيَّانَــــةً ـ ـ لِعِرْضِ أَخِي عِرْضٍ أَبَى عَنْ صِيَّانَتِـه
فانظروا خِلَالَكُم..
هذا، ومعلوم أن بعض الأزمات المرَضِية، قد يتطلب علاجها صدمات موجعة، وفِي هذه ملتمس بأحسن المخارج لمن كتب مشخصا فَـ هجا الناس..