لا يختلف اثنان على أن الأزمة الخليجية الحالية – وهي تنهي شهرها الثاني – تعد من أعقد وأخطر الأزمات التي مرت على البيت الخليجي، وليس ذلك في بساطة الخلافات الخليجية – الخليجية عبر التاريخ ؛ فخلافات القوم وثاراتهم و"مؤامرات" بعضهم معروفة ومشهودة ، وإنما لكونها تخرج من مجالس الحكم ومكايدات الساسة وخلافات القادة ، لتصل إلى القاعدة وتحدث شرخا اجتماعيا داخل البيت الخليجي يصعب تجاوز آثاره على المدى القريب .
كما أن الأزمة – هذه المرة – لم تأت نتيجة لخلافات (بينية) حول قضايا تخص البيت الخليجي (كقضايا رسم الحدود أو غيرها من السياسات الداخلية )؛ بل كانت "عرضا" لمشاكل خارجية تختلف سياسات ومشاريع الدول الخليجية إزاءها ؛ وأساسها ما يجري في المنطقة من آثار وتداعيات الربيع العربي ؛ الأمر الذي أدى إلى بروز مشروعين خليجين متباينين (بل متصارعين)، وإن ظهرا متفقين أو في خندق واحد كما في سوريا واليمن.
وبعد ما يقارب الشهرين على بداية الأزمة ، - وانتهاء مهلة العشرة أيام التي منحتها الدول المحاصرة لقطر- ، حاول الطرفان "استثمار" جميع الأوراق الرابحة التي يمكن استخدامها من أجل كسب معركة "لي الأذرع" بين الإخوة المتخاصمين ؛ بدى أن هناك فرق كبير بين تأثير "مراعي" الطرفين على مجريات وتفاعلات الأزمة.
فقد تبين أن المرعى القطري ( وهنا نتحدث عن كشكول من "القوى الناعمة" التي تستخدمها الدول في إطار العلاقات العامة الدولية، حتى لا يتبادر إلى الذهن أن المسألة ؛ مسألة أكل وشرب وبيع وشراء أو "معدة" حتى )، تبين أن المرعى القطري كان يحتوي "القيعان التي تمسك الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير"، فلم نعد نتحدث عن تيارات واتجاهات (إسلامية وغيرها) تمتلك النواة الصلبة في الوطن العربي تماهت مواقفها مع الموقف القطري‘ بل وصل تأثير مرعى الدوحة إلى المجموعات الاقتصادية والسياسية صاحبة التأثير على دوائر القرار في السياسة الغربية؛ في وقت كانت "مراعي" الدول المحاصِرة تعتمد على علب حليب (ثبت أن "المعدة القطرية" قادرة على التكيف مع غيرها ، وأن الإنسان يمكنه العيش بدونها)؛ وكان رواد هذه "المراعي" مجموعات من قطعان العسكريين الغربيين المتقاعدين الذين يمتهنون العمل في سوق النخاسة السياسية، الذي لا يمتلك أصحابه أي تأثي حقيقي (رغم حملات العلاقات العامة؛ والمال الذي أنفق، حيث وصل سعر الفرد "مراسل الجزيرة" حسب مصادر إعلامية إلى ربع مليون دولار)، فغاب التأثير على المؤسسات الوازنة التي تراعي عامل الربح والخسارة (بمنطق العلاقات الدولية) قبل أن تتخذ أي موقف، أو تنحاز لأي طرف.
فعلى الرغم من أن موقف الدول المحاصرة يتقاطع – بلاشك – مع مواقف اللوبي الصهيوني ( وهو لوبي معلوم المكانة والتأثير على القرار الغربي ، والأمريكي منه على وجه الخصوص)؛ فإن هذه الدول – لحد الساعة – لم تجد مؤسسة رسمية أو شبه رسمية، تؤيد حصارها وتدعم مطالبها(ادعاءاتها)لقطر. بل على العكس ، كان التندر والتنديد والسخرية و"الاندهاش" مواقف معلنة وواضحة من قبل عدد من الدول الغربية، والمنظمات الدولية ؛ إذا استثنينا تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد اترامب (وهي متفهمة في إطار الخلفية التجارية للرجل ، والنزعة "الشعبوية" التي طبعت خطاباته ومواقفه)، فالموقف الأمريكي – المعلن على الأقل – هو ما عبر عنه "اندهاش" وزارة الخارجية ، وصفقات وزارة الدفاع الجوية و"مناوراتها" البحرية.
أما على الصعيد الخليجي والعربي فلم تتجاوز تأثيرات "مراعي" الدول المحاصرة قرارات بعض الانقلابيين الذين عرفوا بالبيع في المزاد السياسي (يدا بيد)؛ من أمثال "العقيد المتقاعد" خليفة حفتر والرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز الذي باع السنوسي للحكومة الليبية بمبلغ 200 مليون دينار ، رغم أن التسريبات تتحدث عن إعطائه الأمان قبل الدخول إلى الأراضي الموريتانية.
ولعل أهم ما كشفته هذه الأزمة هو (أزمة الدور السعودي) الذي خسر ورقة "الشقيقة الكبرى" التي ظلت المملكة ترفعها داخل البيت الخليجي ، كما ظهر ضعف التأثير السعودي في الموقفين: الأردني الذي جاء باردا وباهتا ، والمغربي الذي كان محايدا، وهما دولتان ظلت السعودية تعتبرهما من "المراعي" التي توجد داخل الحمى.
ثم إن الموقف الداخلي لدول الحصار كان انعكاسا للتخبط في المواقف والسياسات الخارجية ، ففي الحين الذي "حفظت" قطر لمواطنيها والمقيمين على أراضيها حقهم في حرية التعبير، داعية إلى "ممارسة" ذلك الحق وفق القانون والآداب وروح المسؤولية الاجتماعية ، أعلنت الدول المقاطعة مجموعة من العقوبات والغرامات على كل من تسول له نفسه أن "يغرد خارج السرب" ، ويخرج عن الحظيرة، بل عملت على غلق كل النوافذ الإعلامية التي يمكن أن تؤثر على "المراعي" أو تدور حول الحمى، والعجيب أن تصل هذه الإجراءات إلى (الإعلام الرياضي) الذي كان يخدم هذه الأنظمة بصرف الشباب عن الاهتمامات السياسية .
وبالعودة إلى ما قبل الأزمة ، والنظر إلى طبيعة مشاريع وسياسات الدولة القطرية وعوائدها، ومدى تأثيرها داخل المحيطين الإقليمي والدولي، نتفهم هذه النجاحات وهذا التفوق، والتعامل بهدوء مع مستجدات الأزمة؛ حيث نجد أن "خِراجَ" المرعى القطري ليس وليد الصدفة وسياسات "التكديس" والعشوائية في البناء ووضع الخطط والتصورات، ولا تحركه "النزوات السياسية المتقلبة" ؛ بل كان يقوم على استراتيجية واضحة؛ قوامها الحضور والتأثير والريادة في المنطقة، رغم أنف العامل الديمغرافي والعوائق الجيوساسية.
فأطلقت دولة قطر مشروعا إعلاميا (الجزيرة) يعد اليوم أكبر مشروع عربي إعلامي في العصر الحديث ، فاق تأثيره كل التصورات وأصبحت قوته تضاهي قوة الجيوش العسكرية، هذا المشروع ؛ وازته شبكة "إعلامية رياضية" أحكمت قبضتها على كل الدوريات والمواسم الكروية ذات الأهمية عند المشاهدين . أبعد من ذلك رياضيا، كان النجاح الأكبر بـ"انتزاع" تنظيم كأس العالم في نسخته 2022 ، رغم المنافسة الشرسة والتشويش والعراقيل.
كما شاركت قطر في مؤسسات اقتصادية غربية قابضة من خلال استلائها على أسهم كبيرة داخل هذه المؤسسات ، مما جعلها جزءا من المنظومة الاقتصادية للدول الغربية ، وكانت منظماتها الخيرية صاحبة اليد الطولى في مشاريع الأمم المتحدة التي تستهدف المناطق العربية والإسلامية أو أي مكان منكوب حول العام .
أما النجاحات السياسية والتأثير في تفاعلات العلاقات الدولية ، فكانت واضحة من خلال طبيعة الملفات التي ظلت قطر جزء لا يتجزأ منها في المنطقة ، وتمت حلحلة بعضها نتيجة للقدرات التفاوضية التي تمتلكها الدوحة من خلال قواها الناعمة وأياديها البيضاء وسمعتها في المجتمع الدولي ، ولعل النقطة الأبرز في السياسة الخارجية القطرية هو قدرتها على الجمع بين المتناقضات ، من خلال علاقات حميمية مع واشنطن ودعم علني لامحدود للشعب الفلسطيني ومقاومته التي تصنفها الولايات المتحدة حركات إرهابية ، الأغرب من ذلك هو ما حدث إبان غزو العراق عندما كان الطيران الأمريكي يقلع من "قاعدة العديد" جالبا الموت والدمار للعراقيين فيجد كاميرات الجزيرة تنتظره، فاضحة لقتله وبطشه.
وفي الأخير، فالمواطن القطري كان – على ما يبدوا - محور هذه السياسات، وبوصلة "المرعى" وقبلة خراجه؛ فهو الأعلى دخلا في العالم ، والأول عربيا في جودة التعليم وكفاءة النظام الصحي وتطور الاقتصاد الرقمي حسب المؤشرات والمقاييس الدولية ذات الصلة.