حرصا علي الإيضاح وإنارة الرأي العام، لم يكن بمقدور تصريح السيدة وزيرة التجارة عقب اجتماع الوزراء يوم أمس، الخميس 06/07/2017، أن يمر بدون تعليق.
فهل يكفي أن تعلن السيدة الوزيرة المحترمة عن وجوب الالتزام بدفع مبلغ ثلاثمائة مليون أوقية في حساب لدي الخزينة العامة للدولة، لكي تحل مشاكل التأمين في بلادنا؟
صحيح أن السوق صغير، وأن الموريتانيين ليست لديهم ثقافة تأمينية. صحيح أيضا أن الفاعلين، ، قد أصبحوا كثرا. فقد وصل عددهم إلي 14 (أربعة عشر ) مؤسسة لسوق تأمين في بلد لا يتجاوز سكانه الأربعة مليون نسمة. كل ذلك صحيح. لكن هل يعاني سوق التأمين في بلادنا من مشكل واحد، هو كثرة الفاعلين؟ كلا. فهناك من المشاكل والاختلالات الكثير. وكان الأجدر والأولي بالوزارة الوصية التصدي بحزم لمجمل تلك المشاكل، بدلا من التركيز علي جانب واحد منها. ثم إن الحل المعلن عنه للتصدي لتشبع السوق، أو علي الأصح ''اكتظاظه'' بالتراخيص، التي كانت قد منحت للأسف الشديد علي أساس معايير الزبونية والصداقة والقرابة والنفوذ؛ حتي هذا الحل، عليه الكثير من المؤاخدات، وقد يجد قراءات مختلفة سنعرض لها فيما بعد.
هناك إذا الكثير من المشاكل المعضلة والمستعصية ، طالما عانت وتعاني منها الضحية الأبرز، وهي المواطن، في تفاصيل ومشاهد عملية التأمين كلها، عملية تحولت في بلادنا، وللأسف الشديد إلي ''فرص'' تحايل كبيرة، يدفع ثمنها أولا وأخيرا، المواطنون الضعفاء، في أرواحهم وممتلكاتهم، لتمتلأ جيوب تجار جشعين لا يتورعون عن بيع ''حبر علي ورق'' بدلا من ضمانات حقيقية ؛ ولا يخشون مماطلة ضحايا الحوادث البشعة، وإعطائهم مواعيد خاوية، بل وجرهم، السنين الطوال، أمام المحاكم. فلا يجدون رادعا من سلطة، ولا دولة مؤسسات، ولا قانون، ولا ضميرا وازعا، حين يتحدون منفذا عدليا يأتي لينفذ حكما نهائيا، صدرعن محكمة وطنية، بعد إنهاء جميع درجات التقاضي، وقد حلي بحلية ''الحكم القطعي النهائي'' الواجب التنفيذ . في تحد سافر لسلطة القضاء في بلادنا، وعدم احترام لأي شرع ولا قانون!.
فلا أحد يراقب ما تقوم به مؤسسات التأمين في موريتانيا، ولا أحد يكترث لهذه الفظاعات التي يروح ضحيتها المواطن البسيط.
إن علي الدولة أن تعيد النظر في كل التراخيص التي منحت مند خصخصة هذا القطاع، سنة 1993، حتي اليوم. فما ارتكب ويرتكب فيه من ظلم، وتزوير، وغش، واحتيال، وتلاعب بأموال المواطنين وأرواحهم، لا يعلمه إلا الله. آن الأوان أن تتصدي الدولة لوضعية مزرية في قطاع حيويي لاقتصاد البلد، ويمس مصالح المواطنين، يوميا، في أرواحهم، وممتلكاتهم. ولقد دل التراجع المشين من طرف الدولة مؤخرا عن قرار ''المخالصات المؤمنة'' ، علي ضعف أداء وتخبط الوزارة الوصية علي القطاع، وعدم جديتها في إصلاح قطاع التأمين في بلادنا. مع أن تلك الخطوة لم تكن وقتها، وقد أشرنا حينها إلي ذلك، لم تكن إلا خطوة بسيطة ومحتشمة، إلا أنها كانت علي الأقل خطوة ''عملية''. بدأت تؤتي أكلها، لصالح الخزينة العامة للدولة من جهة، فيما شكلت''أداة'' ضغط و متابعة وإلزام علي المؤسسات المحتالة من جهة أخري. ومع ذلك، سرعان ما تم التراجع عنها، للأسف الشديد، تحت ضغط ''لوبيات'' التجار، الجشعة.
آن الأوان للدولة أن تفهم أن التمادي في السماح با''بتزاز'' و''سرقة'' أموال المواطنين، و''التحايل'' عليهم، لا يمكن أن يستمر. وهي وضعية خطيرة وملحة، يجب التصدي لها بحزم من طرف رئيس الدولة، شخصيا.
لقد أعلنت السيدة الوزيرة، نفسها، ومنذ فترة وجيزة عن الشروع في إنشاء ''سلطة تنظيم'' خاصة بقطاع التأمين ؛ فأين وصل هذا المشروع المهم، ولماذا لم يتم إنشاء سلطة التنظيم الخاصة بهذا القطاع، أم أنها ذهبت سدي، وتم التخلي عنها هي الأخري، تحت ضغط ''لوبيات'' التجار والمتنفذين، الجشعة.
لماذا لا يتم الحديث عن خطوات ''عملية'' أكثر جدية وصرامة ونجاعة في التصدي لعدم احترام القانون من طرف مؤسسات التأمين في بلادنا؟ وهي إجراءات متبعة في جميع الدول، كالتفتيش والرقابة والمتابعة والمساءلة والإنذار والتوبيخ والمعاقبة بالغرامات الكبيرة، وصولا إلي سحب الرخصة نهائيا، في حالة التمادي في المخالفة. وذلك بالتركيز علي الجوانب التالية مثلا:
-النزاهة في المالكين والكفاءة المسيرين لمؤسسات التأمين
-التأكد من طبيعة المؤسسة، كمؤسسة ''مساهمة'' وليست، كما هو الحال عندنا، مؤسسات أفراد، وعائلات.
-التأكد من دفع رأس المال عند إنشاء الشركة.
-احترام السعر المحدد في 'التعريقة'' الرسمية التي تصدر عن الوزارة الوصية في التأمين علي المسؤولية المدنية الإلزامي للسيارات.
-الملاءة المالية للشركة، والتي يرجع في تحديدها إلي ما للمؤسسة من ممتلكات، منقولة، وغير منقولة، وما تملكه من أموال تمكنها من الوفاء بالتزاماتها.
-احترام مباديء التأمين، وخصوصا احترام مبدإ التعويض بالمقدار العادل والمنصف، وفي الآجال القانونية المحددة.
-الاحتياطات الخاصة بالأقساط التي لم تستحق بعد
-الاحتياطات الخاصة بالحوادث قيد التسوية
-الاحتياطات الخاصة بالحوادث التي وقعت ولم يبلغ عنها
-الاحتياطات الرياضية لعقود التأمين علي الحياة
-التقيد القانوني بالتصرف في أقساط التأمين وعدم استخدامها إلا فيما يسمح به القانون
-الالتزام بوتيرة ''معقولة'' ومقبولة لتسديد التعويضات المستحقة، وخصوصا ''الديات'' عن الحوادث الجسمانية التي يموت فيها الأشخاص ويصابون بجروح بالغة في بعض الأحيان.
-احترام حقوق العمال لدي مؤسسة التأمين، خصوصا الحق في ''عقد عمل'' وأجرة مضبوطة بـ ''كشف الراتتب'' الشهري، مع التصريح بهم لدي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ودفع المستحقات عنهم، وكذا التأمين الصحي لدي ''اكنام'' ، مع الحق في الإجازة السنوية والتكوين المستمر. لكن...
هل تعلم السيدة الوزيرة أن كل المؤسسات التي تعمل في حقل التأمين في بلادنا، هي مؤسسات ''أفراد'' و''أسر'' ، ليست لها مجالس إدارية فعلية ، وإنما هي عبارة عن ''حوانيت'' يملكها تجار، تفننوا في بيع ''حبر علي ورق'' ؟
هل تعلم السيدة الوزيرة أن كل المؤسسات التي تعمل في حقل التأمين في بلادنا، لم تدفع منها مؤسسة واحدة عشر العشر من رأس المال المنصوص عليه في الأمر القانوني رقم 026/2007 المحدد للحد الأدنى لرأس المال، وحتى مواد مدونة التأمين التي صدرت قبل هذا الأمر القانوني ، يوم كان رأس المال الملزم به ، لا يتجاوز ثمانين مليون أوقية؟
هل تعلم السيدة الوزيرة المحترمة أن كل المؤسسات التي تعمل في حقل التأمين في بلادنا، لا تعرف أصلا ، ولا تريد أن تعرف معني الاحتياطات، بشتي أنواعها، ولا تهمها القواعد والضوابط الفنية لمهنة التأمين؟
هل تعلم السيدة الوزيرة أن كل المؤسسات التي تعمل في حقل التأمين في بلادنا، بلغت من حدة وشراسة التنافس الغير شريف علي أقسط تأمين السيارات، وتبخيسها، و''تخسيسها'' ؛ أن أصبحت تبيع تأمين سنة كاملة للسيارات الصغيرة الحجم (سياحية، أقل من 750 كلغ، ذات استخدام خصوصي، مغلقة الهيكل، بقوة محرك من 7 الي 10 حصان) بـ 10.000 (عشرة آلاف) أوقية بدلا من 31.006 (واحد وثلاثون الفا وست أواق)؟ ؛ كما تلزمهم بذلك التسعرة الموحدة الصادرة عن إدارة رقابة التأمين التابعة لوزارتها ...
هل تعلم السيدة الوزيرة أن كل المؤسسات التي تعمل في حقل التأمين في بلادنا، لا تملك عمارة خاصة بها تؤوي مقرها الرئيس، علي غرار مؤسسات التأمين البسيطة في الدول المجاورة، ولا تسهم في الاقتصاد الوطني بشراء سندات الخزينة، ولا تبني مدارس ولا مستشفيات. وما ذلك إلا لأن ملاك هذه المؤسسات يعتبرون أقساط التأمين نقودا لملأ جيوبهم، قد لا يحتاجون حتى إلي دفعها في حساب مصرفي !! وهذه الأقساط في نظرهم ''سيولة'' يسيرون بها مؤسساتهم الأخرى ويضمنون بها مصروفاتهم المنزلية اليومية وتلبي حاجات ''قطعان'' الإبل و البقر والغنم، وتضمن شراء ما يكفي من وقود السيارات الرباعية الدفع، بل قد تضمن عطلا مريحة في إحدى الدول الاوروبية و''لعب البينجو'' وارتياد أرقي الكازينوهات...
هل تعلم السيدة الوزيرة أن كل المؤسسات التي تعمل في حقل التأمين في بلادنا، لا تعوض الحوادث كما يجب. فكم من ''دية'' بين الرفوف في أرشيف حوادث تلك المؤسسات، أو ''عالقة'' أمام المحاكم ؛ وتدفع الرشاوى علي تأجيل البت فيها المرة تلو الأخرى. وحتى إذا صدر حكم لصالح أصحاب الحق فيها فلا يملك أحد القدرة '' للتنفيد الجبري'' علي هذه المؤسسات. وقد تمضي سنوات عدة علي ملفات حوادث جسمانية، ولا يتم تسوية حالات الجروح منها، ناهيك عن الوفيات!!.
ويتأكد من كل ما أسلفنا أن قرارا بإلزام مؤسسات التأمين بدفع مبلغ ثلاثمائة مليون أوقية في حساب لدي الخزينة العامة للدولة ، هي ملزمة بدفعه أصلا بقوة القانون ؛ يمكن فهمه علي أنه نوع من التسويغ لهذه الشركات في التمادي في ما هي عليه من الفظاعات التي ذكرنا، وذلك مدة ثلاث سنوات قادمة، في الوقت الذي يحرم من هذا ''التسويغ'' فاعلون آخرون يودون الاستفادة من نفس ''الوضعية''، حيث سيكون عليهم دفع كل هذا المبلغ قبل أن يتمكنوا من مزاولة أنشطتهم. وهذا ''ظلم'' !!!. كما يمكن القول أيضا بأن هذا الإجراء لو كان يراد له أن يكون ناجعا وفعالا في تصحيح اختلالات متعددة الجوانب، كان من المفروض إلزام الفاعلين به فورا. ومهما قلنا عن الإجراء، يبقي من المؤكد عدم فعاليته بالشكل الذي عرض به.
في الختام ننصح السيدة الوزيرة بالتصدي بحزم لجميع الاختلالات التي يعاني منها القطاع، بشكل فعال، وعدم التركيز علي جانب واحد، مهما كانت المآرب الآنية من إصداره، وذلك تفاديا لتقصير قاتل علي الحلول الجزئية والترقيعية.