بلغ اللغط في الآونة الأخيرة مبلغه وانقسم الموريتانيون في فهم ومغزى التعديلات الدستورية، فذهب بعضهم إلى أنها شر مستطير فيما رأى فيها آخرون منقذا ومخلصا من جملة المشاكل الاقتصادية والتنموية التي تعرفها البلاد. ورغم أني أميل إلى كونها إيجابية في انعكاسها على الدولة والمواطن من الناحية البراكماتية، فقد أثار فضولي هذا السجال الأكثر استقطابا في تاريخ البلاد الدستوري، من وجهة نظري على الأقل،
وأحببت أن أدلي بدلوي فيه ومحاولا في الآن ذاته أن أجيب على السؤال : في مصلحة من يصب إقرار التعديلات الدستورية؟
للإجابة على هذا السؤال فإنني سأتطرق لكل محور من هذه التعديلات على حدة:
1- استبدال مجلس الشيوخ بمجالس إقليمية:
لم أكن أرى يوما منذ أيام الدراسة في الجامعة – وأعتقد الكثير من الموريتانيين يشاطرونني الرأي – أن موريتانيا ذات التجربة الديمقراطية الوليدة، بحاجة إلى برلمان من غرفتين على الأقل في هذه المرحلة من تاريخها السياسي، وهذا ما أثبتته التجربة بالفعل، ففي الواقع لم تكن الغرفة الثانية يوما إلا نسخة طبق الأصل من الغرفة الأولى سواء على مستوى اتخاذ القرارات أو الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة.
بيد أن الأمور تغيرت للأسف عندما أحست هذه الغرفة بأن الحكومة ماضية في إقرار التعديل الصادر عن الحوار الأخير، والقاضي باستبدالها بمجالس إقليمية تتموقع بين السلطتين الإدارية والمحلية، مشكلة بذلك همزة وصل بين سلطتين متنافرتين في أحيان كثيرة، فلربما كان هذا التوازن مطلوبا لفرض برنامج تنموي يأخذ في الحسبان خصوصية كل منطقة، ويراعي تضاريسها وأهم العوامل المؤثرة في اقتصادها المحلي ويستشرف آفاقها التنموية. وكأن السؤال المطروح بإلحاح هنا: أين كان مجلس الشيوخ طيلة السنوات الماضية؟ وهل قال لا قط إلا في تشهده؟ أم أن مصلحة ما تحركه؟
إن المصلحة الكبرى التي تتحقق من خلال استبدال مجلس الشيوخ بمجالس إقليمية تنموية سيجنيها الشعب أولا وأخيرا وذلك عائد إلى:
- أهمية لا مركزة القرارات وما ينجر عن ذلك من تجاوز للبطء في الإجراءات وكسر للروتين الإداري؛
- مدى معرفة المجالس الإقليمية المنتخبة بطبيعة المشاكل المطروحة لكل منطقة وأنجع السبل لحلها حسب الأولوية؛
- تضاعف فرص العمل أمام المواطنين ذلك أن إنشاء عدة مجالس سيوفر من فرص العمل ما لا يوفره مجلس وحيد؛
- مجلس الشيوخ لا يعدو كونه مجرد ترف دستوري حيث يمكن للغرفة الأولى الاضطلاع بمهامه مجتمعة.
2- مؤسسة وسيط الجمهورية
لا يختلف اثنان على أن هذه المؤسسة لم تلعب أي دور يذكر منذ إنشائها رغم أنها مؤسسة دستورية قائمة، وتستفيد من موارد مالية معتبرة يتم اقتطاعها من دافعي الضرائب ومن أموال الشعب. أليس من الحكمة ترشيد هذه الموارد وتحويل مهام هذه المؤسسة إلى المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، والتي رغم حداثة ولادتها فقد لعبت أدوارا مهمة في رفع المظالم عن المواطنين وتقديم الفتاوى الشرعية الوسطية معتمدة في ذلك على علماء جهابذة وفقهاء أجلاء.
3- مؤسسة محكمة العدل السامية
وينطبق عليها تماما ما ينطبق على سابقتها، فالأولى ترشيد الموارد الهائلة المخصصة لها وتحويلها لصالح تعزيز الجهود التنموية وتحويل مهامها إلى المحكمة العليا. فالعبرة ليست بإنشاء كم هائل من المؤسسات الدستورية، بقدر ما هي جعل هذه المؤسسات في مستوى من الفاعلية يؤهلها للعب الدور المنوط بها على الصورة التي تحقق طموحات الشعب.
4- العلم الوطني
على الرغم من القيمة المعنوية والقدسية الكبيرة التي ينظر بها الموريتانيون إلى علمهم، فإنني لا أرى مانعا من الاحتفاظ بجوهره المتمثل في خلفية خضراء يتوسطها هلال ونجمة ذهبيين، وإضافة عارضتين أفقيتين حمراوين وفاء لأرواح أجيال من الشهداء والعلماء والأبطال، الذين سطروا بدمائهم الزكية أعظم البطولات وأروع الملاحم في تاريخ أمتنا العظيمة، بل أعتبر ذلك واجبا أخلاقيا ورد اعتبار لهم ولأبنائهم الذين يعيشون اليوم بيننا. زد على ذلك أن إضافة هاتين العارضتين تحمل في ثناياها إيحاء مفاده أن بحرا من الدماء سيحول بين جارتينا الشمالية والجنوبية وتحقيق أطماعهما التوسعية في النيل من سيادتنا ووحدة أراضينا.
وفي الأخير أستسمح إن كان صدر مني لغو أو تقصير، وألفت إلى أن تسفيه كل عمل صادر عن الحكومة وإعطاءه شحنة سالبة حتى قبل فحصه وتحليله في بعض الأحيان ليس منصفا، سيما إذا تعلق الأمر بإصلاحات دستورية تمس مصالح المواطن بالدرجة الأولى فالحكومة التي اقترحتها تتغير باستمرار أما هي فتبقى إلى ما شاء الله.