التعديلات الدستورية والديمقراطية في المغرب العربي / محمد الحافظ ولد الغابد

محمد الحافظ ولد الغابدما فتئت شعوب المغرب العربي تعبر عن تعلقها بالحريات الديمقراطية. وشهدت ثمانينيات القرن المنصرم ثورات وانتفاضات شعبية عارمة مطالبة بوضع حد للحكم الفردي التسلطي الاستبدادي الذي نشأ متكئا على شرعية الحزب الواحد الذي انصهرت فيه القوى الشعبية وقاد جهاد حركة التحرر الوطني من نير

الاستعمار الفرنسي الضارب للهوية والكيان الحضاري في الأقطار المغاربية. غير أن مخاض الحركة الوطنية انبجس عن مشهد سياسي متنافر الرؤية مشتت المرجعية لا يكاد يجد العافية حتى يبدأ التآكل من داخله وتلك حال الصراع المستحكم ما بين التيارات الشيوعية والقومية والإسلامية التي يسعى كل منها للهيمنة على كل شيء في الدولة. وتتسابق هذه التيارات على إبراز تشبثها بالديمقراطية مع أن الثقافة السياسية لديها مبنية على الشحن الأيديولوجي والعقائدي البعيد عن الثقافة الديمقراطية التعددية بما تعنيه من تسامح ونسبية في المطلب والطموح والقبول بالآخر المخالف في الرأي والفكر. وما دامت الثقافة الحزبية الإلغائية لتلك التيارات مستحكمة في الساحة السياسية فإن أهم عائق للديمقراطية سيظل مانعا من نمو الفكر الديمقراطي بفضائله المتمثلة في القبول بالآخر والبعد عن الإلغاء والشطب والدفع بالصراع السياسي إلى الطرق المسدودة. وقد قادت حالة انقسام النخب الفكرية وصراعاتها المريرة إلى فسح المجال لبقاء وتحكم الأنظمة العسكرية والملكية، وتحولت الديمقراطية إلى مجرد شعارات وتحولت وظيفة الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية إلى حامٍ للنظام القائم المتخوف باستمرار من انقضاض النخب المتصارعة والمتربصة على السلطة عبر ثورات أو انقلابات عسكرية، وهو ما حد بدوره من فرص بسط الحريات السياسية وأبقى التعددية وكل المضامين الدستورية مجرد شعارات فارغة وشكلية وفقد المواطن بالتالي ثقته وأمله في الديمقراطية ذاتها ولم يعد يأبه للخطاب النخبوي بهذا الخصوص وبات المواطن العادي يتخذ الديمقراطية وقيمها سخرية وهزءا لما شاهده من مثال مشوّه للفكرة في الواقع. أزمات التعديلات الدستورية في الأقطار المغاربية عرفت الدساتير في البلدان المغاربية موجة من التعديلات المستمرة لا من أجل أن تلائم تحولات الواقع الاجتماعي والتطور السياسي والديمقراطي، وإنما من أجل تثبيت هذا النظام أو ذاك وأحيانا الإبقاء على شخص بعينه في السلطة. فقد جاء التعديل الدستوري 26 مايو 2002 في تونس ليتيح للرئيس زين العابدين بن علي الترشح لولايات ثالثة ورابعة وخامسة حسب مقتضيات الفصل 39 بدل اثنتين فقط، كما تم تعديل أحكام الفصل 40 من الدستور لتكون سن المترشح لا تقل عن 40 عاما ولا تتجاوز 75 عاما بدل 70 في الفصل المعدل، وتم تعديل الدستور ليحقق رغبة البقاء، لا بفعالية الأداء الديمقراطي، وإنما بالمناورة والمراوغة السلطوية التي تفرض نوعا من التشبث بالسلطة الاستبدادية حيث ممارسة صلاحيات مطلقة لا رقيب عليها ولا حسيب. ويجري حديث عن تعديل دستوري آخر هذا العام، ومن التفسيرات التي أعطيت له أنه يسعى لمنع مرشح قوي من الترشح بفعل تعقيد إجراءات وشروط الترشيح للرئاسة. وفي الجزائر تم تعديل الدستور عدة مرات، خصوصا بعد هيمنة الجيش على المشهد السياسي إثر إلغاء المسار الانتخابي عام 1992 وفرض حالة الطوارئ التي استمرت لعدة سنوات، إذ تمت مراجعة الدستور الجزائري عام 1996 وتم إقرار دستور يكرس ما يسمى بـ «النظام الرئاسي الصلب» الذي اختلفت القوى والأحزاب السياسية في الموقف منه. فبينما سماه الرئيس السابق اليمين زروال «التصحيح الوطني»، سماه حسين آيت أحمد زعيم حزب القوى الاشتراكية «الدكتاتورية الدستورية»، ودعته حركة حمس «تهميش الإرادة الشعبية»، ووصفه سعيد سعدي بـ «تجديد النظام لنفسه». وقد سجلت المراجعة الدستورية في الجزائر 1996 تراجعا كبيرا عما كرسه دستور 1989 من حريات، حيث جاء التعديل الدستوري 1996 مثقلا بآليات الحد من ممارسة الحريات. وجاءت التعديلات التي أقرها البرلمان قبل أسابيع ليناسب الدستور قامة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من خلال ترشيحه لولاية ثالثة وإلغاء تحديد فترات انتخاب رئيس الجمهورية. وفي موريتانيا تم تعديل الدستور في العام 2006 بعد انقلاب الثالث من أغسطس 2005. ويتداول الوسط السياسي حاليا في نواكشوط حول التعديل القادم حجما ونوعا بعد انقلاب السادس من أغسطس 2008، ويجري حديث عما إذا كان من الممكن تحويل النظام السياسي من رئاسي إلى برلماني. وتشير العديد من المؤشرات إلى أن ثمة إرادة قوية لتشذيب وتهذيب النظام الرئاسي الحالي والذي اتضح أنه لا يلائم تحولات التطور السياسي والديمقراطي في موريتانيا. أما في المملكة المغربية فقد عرفت البلاد استقرارا نسبيا خلال العقد الأخير، غير أن أصواتا سياسية عدَّة باتت تطالب بتعديل دستوري للاستجابة لتحولات الواقع السياسي. وروج «المخزن» المغربي عبر تسريبات إعلامية خلال انتخابات 2007 التشريعية عزم الملك محمد السادس على إجراء تعديل دستوري ينص على منح الصحراء الغربية حكما ذاتيا في إطار الحكم الملكي للبرهنة للمجتمع الدولي على جدية المغرب في إيجاد حل لمشكلة الصحراء. والدستور الخامس في المنطقة المغاربية هو الدستور الليبي الذي يتأسس على ما يُعرف بـ «مقولات الكتاب الأخضر» وآلية المؤتمرات الشعبية، والذي يأخذ بما يسميه الديمقراطية المباشرة التي تتعالى على الديمقراطية التعددية والحداثة المنبثقة عن التجارب الإنسانية الغربية، وترسي دعائم نظام قوي يعب من أساليب وتجارب الأنظمة الاشتراكية ذات القبضة الحديدية المطعمة بشيء من الاعتماد على البنية الاجتماعية التقليدية القبلية والعشائرية وتوظيفها باستمرار لتفعيل الولاء والطاعة للنظام القائم. وفي السنوات الأخيرة ظهر صوت جديد من داخل النظام الرسمي الليبي يقدم أطروحات مناقضة لما ظل سائدا خلال العقود الأربعة الأخيرة، حيث بشر نجل العقيد القذافي بنظام جديد لم تتضح معالمه بعدُ، ثم دخل بياتا شتويا بعد إعلانه اعتزال الحياة السياسية خلال الأشهر الماضية. غير أن ليبيا أيضا عرفت نوعا من الانفتاح السياسي وارتخاء القبضة القمعية قليلا في إطار حالة انفتاح لن تقود –قطعا- إلى انفتاح ديمقراطي طبيعي ولكنها قد تشكل متنفسا يفيد وإن بشكل محدود القوى السياسية والاجتماعية التي عانت القمع طويلا في القطر الليبي. خلاصات واستنتاجات سيبقى التطور الدستوري في المغرب العربي مرهونا بمدى استجابته للإشكالات السياسية الواقعية بعيدا عن المناورة السياسية التي يقع رهنا لها اليوم بفعل عوامل عدَّة سياسية واجتماعية. ومن أهم هذه الإشكالات: 1- الحسم في المرجعيات والثوابت على نحو يصون الهوية بكل أبعادها الدينية والحضارية واللغوية بما فيها حقوق الأقليات، وجسر الهوة ما بين الموروث الإسلامي في مجال الإدارة والحكم وما أملته التجارب الإنسانية الحديثة في إطار عملية إبداعية لا تنبهر بالحاضر الغربي ولا تتنكر للماضي. 2- إطلاق الحريات بصورة فعلية تستجيب لروح التحولات التي تعرفها هذه البلدان وتطمح إليها شعوبها من دون وصاية من حاكم أو مؤسسة عسكرية أو تيار سياسي بعينه مهما كانت مبررات وجوده. 3- لكي ينشئ الدستور سلطة فعالة من المهم أن يتضمن الاهتمام بجوانب علاج الاختلالات السياسية وأن يعالج إشكالات الواقع ويحفز منظومة مؤسسات الدولة لتكامل الأدوار وسيادة روح القانون في البلاد العربية، فالدولة المأمول نشوؤها هي دولة قانون قبل أي شيء آخر تسعى لعمارة الأرض وإسعاد الناس وتحقيق العدالة الاجتماعية.

 

4. ديسمبر 2008 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا