التعديلات الدستورية والديمقراطية في المغرب العربي / محمد الحافظ ولد الغابد

محمد الحافظ ولد الغابدراقب العديد من الأطراف الإفريقية والعربية المسار الديمقراطي في موريتانيا، وتجربته في الشفافية. وكل طرف كان ينظر إلى التجربة وتختلج في صدره هواجسه الدفينة وحساباته المحلية. فالأنظمة العربية نظرت نظرة توجس، وحبست أنفاسها وهي ترى نموذج سوار الذهب يتكرر مع العقيد علي ولد محمد فال!

وبعضهم -كالعقيد القذافي والمفكر العربي المصري محمد حسنين هيكل- لم يزد على أن اتخذ لحظة الديمقراطية الموريتانية «العابرة» سخرية، ودليلا على مفارقات اللحظة التاريخية العربية التي تعرف تشظيا وتعددا -في أوجه المفارقات- غير مسبوق. وجزم هيكل أن التأثير للحظة العابرة هذه في العالم العربي المشغول بهمومه ومآسيه متعددة الأوجه هي تبع للنظرية السياسية المشرقية عن ثنائية الأطراف والمركز، حيث تتأثر الأطراف ولا تأثير لها في المركز.

صراع النماذج الإقليمية
أما القسم الأهم من المعنيين بالديمقراطية الموريتانية فهم الجيرة الأقربون لموريتانيا من عرب وعجم. ويمكن أن نعتبر أن الديمقراطية الموريتانية تتنازعها نماذج متعددة عربية وإفريقية.. فهي من ناحية تحتذي النموذج «المالي»، حيث أسس الانقلاب العسكري على نظام موسى تراوري عام 1991 لديمقراطية فعلية أسست للانتقال السلمي للسلطة أكثر من مرة، وتعاقب مدنيون وعسكريون على السلطة دون مشكلات تذكر، واتجهت مالي إلى هموم التنمية الاقتصادية دون انشغال بالنقاش السياسي العدمي المؤجج للصراعات الإثنية والقبلية المضادة للمصلحة الوطنية.
ويبرز النموذج السنغالي الملاصق لموريتانيا عن قرب كنموذج متفرد، حيث لم تعرف السنغال الانقلابات العسكرية، وتكررت فيها تجربة الانتقال الديمقراطي، لكن الموريتانيين كانوا يقتبسون أكثر ثقافتهم السياسية من العالم العربي، نظرا لاستحكام هيمنة النخبة العربية على الشأن السياسي في مقابل النخبة الإفريقية الإفرانكفونية التي تقتبس أكثر من التجارب الإفريقية، وربما وقفت حالة التنافس والمماحكة مع الجار السنغالي دون الاستفادة من تجاربه والتأثر به مهما بدا نموذجا إفريقيا متفردا في التداول الديمقراطي السلمي على السلطة بين قواه الوطنية المتدافعة.
وعلى مستوى الجوار العربي المغاربي، يبرز نموذج «الديمقراطية الموجهة ذات السقف الواطئ جدا» في النموذج الجزائري، حيث الجيش يُحكم قبضته على الحياة السياسية المأزومة بالعنف العدمي الأعمى، وحيث تقع الديمقراطية بين فكي كماشة الجيش والعنف.
وفي النموذج الآخر القريب إلى موريتانيا، وهو النموذج المغربي، فإن الديمقراطية الموجهة والمتحكَّم في مقادير حرياتها بنسب محددة ليس من المقبول تجاوزها، لأن العرش -وهو المرجعية الناظمة للحياة السياسية- يحتكر لنفسه الحرية كقطب ومنبع أصيل للديمقراطية التعددية. وقد أشارت بلقيس ملكة اليمن إلى «قانون احتكار الحرية والعزة من قبل الملوك» كما في الآية الكريمة: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون».
والمراقبون للشأن السياسي في الإقليم يعتبرون أن «المخزن المغربي» لم يكن راضيا عن بعض سياسات الرئيس الموريتاني الإقليمية، بدليل أن الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله لم يقم بأي زيارة للمغرب التي كانت البلد العربي الأرفع تمثيلا في احتفالات تنصيب ولد الشيخ عبدالله في أبريل 2007. وجرى حديث وأخذ ورد حول زيارة العاهل المغربي لموريتانيا، وهي الزيارة التي ألغيت لأسباب سياسية وأمنية متعددة.
وجاء الاعتراف المغربي السريع بالانقلاب الموريتاني مبرزا مدى القلق المغربي من الديمقراطية الموريتانية، مع أن ثمة عوامل سياسية أخرى سرّعت بهذا الاعتراف، لكون الضباط الذين نفذوه ينتمون إقليميا للتكوين المغربي، إضافة إلى أن الجنرال ولد عبدالعزيز ينتمي لوسط قبلي أكثر ارتباطا بالمخزن المغربي، وبالتالي فهو حليف وصديق يُطمأن إليه مغربيا أكثر من الرئيس المنتخب الميال للاستقلالية، والمعتمد على قوى رفضت هيمنة المغرب تاريخيا على الصحراء الغربية وموريتانيا، وكانت داعمة لجبهة البوليساريو، وتلك هي حال اليسار الماوي ممثلا في حزب اتحاد قوى التقدم.
وهذا ما عجّل بالفيتو الجزائري على الانقلاب الموريتاني، إذ ينتظر أن تتفاقم بشكل أكبر الصراعات الإقليمية بين البلدين المؤثرين في اتحاد المغرب العربي والاتحاد الإفريقي. وهذا الصراع كان قد اندلع إبان سنوات الاستقلال الأولى، واستمراريته تجسدها إشكالية النزاع على أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب اللذين تخضعهما المغرب لسلطانها، وتدعم الجزائر جبهة البوليساريو المطالبة بالاستقلال للجمهورية العربية الصحراوية التي تعترف بها موريتانيا التي يشكل موقفها -المحايد علنيا والمنحاز سريا لاستقلال الصحراء بفعل تأثير قبائل الشمال المتعاطفة مع الجبهة- عاملا في تغذية الصراع بين المغرب والجزائر.

صراع النماذج السياسية غير الديمقراطية
وتُبرز حالة الصراع الحالي بشكل حاد ضعف البنية التحتية للثقافة الديمقراطية لكافة أطراف الصراع الحالي في موريتانيا، وستبقى الديمقراطية الذبيحة برؤية البعض، والمحمية برؤية البعض الآخر، شعارا سياسيا بالنسبة للجميع، وهي مجرد وسيلة للوصولية السياسية لا غير. ذلك هو واقع الديمقراطية الموريتانية التي تشكل اليوم شعار كل السياسيين، مدنيين وعسكريين، فالثقافة السياسية لهؤلاء -بلا استثناء- هي ثقافة شمولية قادمة من رحم التجارب الاستثنائية للأنظمة القومية والاشتراكية، وكل طرف يحاول تقديم نفسه للآخر وللرأي العام الوطني والدولي بغلاف ديمقراطي، لكن الديمقراطية والمصلحة الوطنية الحقيقية بريئة من الجميع براءة الذئب من دم يوسف، فكل أطراف الصراع الحالي ليست لها من دافع إلا الأنانية الضيقة والمصالح الشخصية والحظوظ النفسية السخيفة. ويبدو أن موريتانيا المنكوبة بساستها ستظل تعيش سقف الطموحات السخيفة لزعمائها، وهو سقف تحدده لكل رئيس موريتاني طموحات القبيلة والعشيرة والحزب السياسي «المشبع» بالروح العشائرية والجهوية والقومية، وهو أبعد ما يكون عن المعنى السياسي الذي تنشأ عليه الأحزاب في التجارب الإنسانية المعاصرة.

التجربة تثبت الحاجة لنموذج ديمقراطي جديد
وتبرز تحولات اللحظة السياسية الراهنة حاجة النخبة السياسية والثقافية لإعادة استنبات الثقافة الديمقراطية، والانخراط السريع في برامج تأسيس ثقافة ديمقراطية حقيقية.. تتأسس على التشبع بالفكر الديمقراطي ونماذجه المشبعة بفكر الحرية والشفافية، بعيدا عن تحكيم مقولات الصراع والعنف، واتخاذ الديمقراطية كلبوس يضفي الشرعية على الفكر الشمولي غير الديمقراطي المنطوي على استبطان آليات الصراع الطبقي والثقافة الشمولية العنفية، وتلك هي حال الوضعية الحزبية المشبعة بالنموذج السياسي اليساري الماوي في تجربة الحركة الوطنية الديمقراطية التي خرجت من رحمها جل التجارب والأنماط الثقافية في الاجتماع السياسي الموريتاني الحديث.

20. أكتوبر 2008 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا