تعيش الفتوى الشرعية ذات الطابع السياسي نوعا من الاغتراب الخطير عن مكانتها ووظيفتها التشريعية الأساسية، بوصفها أهم أدوات البيان الدعوي والبلاغ التشريعي، وستظل الفتوى الشرعية الصادرة عن اجتهاد صحيح وسيلة البيان الشرعي والعلاج الناجع لما استحكم في حياة الناس من مشكلات، سواء
كانت فردية أو جماعية، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل وحتى دفاعية أو حربية، غير أن استحكام العرف والعادة المنحرفين عن قيم الدين الحنيف تخلق اليوم -بشكل غير مسبوق- أهم وسائل البيان الشرعي، إضافة ما تعانيه الفتوى من تسلط «المفتي» المتساهل غير المستجمع لشروط الفتوى، والفاقد للأهلية، إذ طوعت العديد من المجموعات الأيديولوجية لبوس الفتوى لمنح الشرعية لمفاهيمها وأفكارها الدينية، تماما كما وظف السلاطين علماء السوء لفرض سلطتهم وهيمنتهم الفكرية والمفاهيمية المنحرفة.
الفتوى السياسية والحصار القديم
يبرز النظر المتفحص لتاريخ الفتوى السياسية في السياقات التاريخية الإسلامية أن الفتوى السياسية عرفت بشكل مبكر نوعا من الحصار والحرب من طرف الحكام ومن تسموا عرفا بالخلفاء في العهدين الأموي والعباسي، وقصة ضرب الإمام مالك، رحمه الله تعالى، والتطواف به في الأسواق بسبب اللَّبْس السياسي الحاصل في فتواه: «ليس على مستكره طلاق» خير دليل على ذلك، إذ تنسحب القاعدة الفقهية الأصلية لهذه الفتوى على البيعة المنتزعة من الأمة كرها في تلك العهود كأساس للشرعية السياسية التي يعتمدها الحكام المتغلبون في تلك العصور، والذين عملوا على تزييف إرادة الأمة وحاربوا الفتوى الشرعية والأئمة الذين صدعوا بالبيان الشرعي في وقت الحاجة، بغض النظر عن مخاطر السياق السياسي الرافض لهذه الفتوى. وتلك حال الكثير من علماء الأمة المجددين -في مختلف العصور- الذين نهضوا بأعباء الشرع الحنيف «ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» كما في الأثر.
وقد أدى هذا الحصار المبكر للفتوى السياسية إلى ضمور الفقه السياسي وانزوائه، نظرا لشدة وطأة شرعية المتغلب التي منح بها فقهاء أهل السنة الشرعية للحكم الفردي الاستبدادي لعدة قرون، وما تزال الثقافة السياسية الاستثنائية التي كرستها الفتوى السياسية تلك تخيم بظلالها على واقع الثقافة السياسية في العالم العربي، مسنودة بالأفكار العلمانية والحداثية في السياقات المعاصرة والتي ترفض سلطان الدين وتكافحه في الحياة السياسية والاجتماعية.
السياق المعاصر للفتوى السياسية
ازدهرت الفتوى السياسية في العقود الأخيرة تبعا لازدهار حركة العودة للأصول الثقافية التي عرفتها أغلب القوميات والشعوب في العالم، خصوصا المجتمع العربي الإسلامي الذي يعرف تحولات كبيرة، من أبرزها ظاهرة الصحوة الإسلامية التي طرحت العديد من الأفكار المتعلقة بإعادة تأصيل الحياة التشريعية والتنظيمية ذات الأبعاد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المقتبسة حديثا من المجتمعات الغربية.
وفي السنوات الأخيرة برز إلى الوجود التوظيف السياسي للفتوى تبعا لحالة الانقسام الحزبي والسياسي في الاجتماع السياسي العربي في الوقت الراهن، ولعل الفتوى الأخيرة التي أطلقها رئيس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية وما ثار حولها -مؤخرا- من نقاش تصلح نموذجا للفتوى الشرعية المحاصرة، إذ أثارت تيارات الليبرالية الإعلامية نقاشا ساخنا بشأن هذه الفتوى التي جاءت قاسية على المتعاطفين مع الإعلام والحريات في العالم العربي المختنق بأزمات الاستبداد السياسي الذي يفرخ مثل هذه الأوضاع المنحرفة ويحرسها، ورغم أن القنوات الفضائية التي استهدفتها الفتوى تكرس حالة من التخدير والإغواء والشرور المستطيرة، فإن الجميع يلاحظ الأثر السيئ لهذه القنوات على الواقع الاجتماعي والثقافي للناس، حيث تجرع قنوات الخلاعة هذه الأمة كل مساء وصباح كؤوسا من الإفساد والشرور الآثمة، دون مراعاة مشاعر الملايين ومعتقداتهم.. في انتهاك صارخ للحريات والحرمات.. حقيقة لا ادعاء.
أقسام الفتوى السياسية
يمكن من الناحية الإجرائية تقسيم الفتوى السياسية إلى قسمين كبيرين: أحدهما الفتوى السياسية «الاجتهادية» المستندة لتشخيص المصلحة الكلية شرعا وواقعا، مع انعدام دلالات نصية وتشريعية مباشرة في موضوع الفتوى، مما يضطر المفتي للاستناد في فتواه للاستدلال بالقواعد الكلية للشريعة في تشخيصه الواقع السياسي الذي يتحرك فيه، وهذا النوع من الفتوى هو الغالب على المسائل السياسية التي وردت بشأنها نصوص محدودة ترسي قواعد كلية، وجل الضوابط الشرعية مناطة بتحصيل المصلحة ودرء المفسدة، مع عدم الاصطدام بنص أو قاعدة شرعية أخرى.. وسيظل هذا النوع من الفتوى محل جدل وأخذ ورد، نظرا لاختلاف المنطلقات ووجهات النظر في تشخيص الواقع من جهة، ولاختلاف منازع الاستلال المذهبية في القواعد الكلية للشريعة ذاتها من جهة أخرى، وإلى هذا يشير إمام الحرمين الجويني في قوله: «ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع خلية عن مدارك اليقين»، وهو يعني بـــ «مسائل الإمامة» المسألة السياسية المتعلقة بالإمامة بشكل عام.
أما القسم الثاني من الفتوى السياسية، فهو المتعلق بالفتوى السياسية التفسيرية المستندة لنص قطعي الورود قطعي الدلالة، وهي فتوى يضيق فيها مجال الرأي والخلاف، لأن دلالتها نصية قاطعة، وعادة ما تعضد بالإجماع الذي هو أحد أهم المصادر التشريعية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفتوى الاجتهادية المستندة للقواعد الكلية تساوي في مكانتها التشريعية الفتوى التفسيرية المستندة للنص القاطع دلالة وورودا.
الفتاوى والمساومة السياسية
ومن معالم الحصار المفروض على المفتين ما تعرفه الفتوى حاليا من حصار غريب، يستهدف إخضاع سلطان الحقيقة الذي تحتكره الفتوى الصحيحة «المنضبطة بالشروط والمعايير الفقهية»، حيث لا تكاد تصدر فتوى -لها اعتبارها من المصداقية- حتى تواجه بانتقادات لاذعة في الإعلام، واتجهت أصوات التخوين والاتهام لمصدري هذه الفتوى، حتى أصبح المفتي يصدر فتواه في جو تسوده المساومة والمراوغة والمداراة، بعيدا عن جو الحوار والنقاش العلمي والفقهي الرصين، ويشوش هذا الجو الموبوء «بالإرهاب الفكري» على الفتوى ذاتها، وهذا ما يجعلنا اليوم نعيش يوميا اضطرابا غير مسبوق في تاريخ الفتوى، فلا تكاد تصدر فتوى حتى تصدر عشرات الفتاوى المضادة، وأحيانا يبدو التناقض بارزا، ويقع في هذا التناقض أحيانا المفتي الواحد الذي يصدر فتواه ثم يتراجع تحت ضغط الاعتبارات السياسية والاجتماعية في تناقض يكشف عمق أزمة الفتوى والمفتي في هذا الوقت.
وتبقى الفتوى السياسية بحاجة ماسة للابتعاد بها عن التوظيف السياسي الحزبي الضيق، كما هي بحاجة للتحرر من سلطان الحاكم والوجهاء -أيا كان موقعهم- كما تتطلب مزيدا من إضفاء المؤسسية عليها حتى لا تظل عملا فرديا في واقع معقد يحتاج لعمل الفرق والمؤسسات، نظرا لتعدد نطاقات التخصصات الشرعية والعلمية المعينة على تشخيص الواقع الذي يفترض في المفتي الإلمام بتفاصيله وجزئياته، كما أنها بحاجة أكثر إلى نمو الورع الوازع عن الهوى والرادع للطموحات الشخصية والحظوظ النفسية، ولله عاقبة الأمور.