نماذج حضور وغياب القبيلة في السياسية الموريتانية!! / باب ولد سيد أحمد لعلي

من أكبر المعضلات التي تواجهنا  في هذه الدولة وتعرقل مسار التنمية الجهوية التي يدعي النظام الموريتاني الحالي السعي إلى إنضاجها وبعثها في ثوب مُستجدٍ يخدم مصالح التنمية الوطنية الشاملة هي علاقة المخزن برجال المجتمعات المحلية القبيلة أو غير القبيلة ، فهي علاقة تعود أكثر قوة في الآونة الأخير وتتجسد بفعل السياسات المتبعة من طرف النظام من أجل فرض سيطرتها وإعادة انتاجها من وقتٍ آخر .

لكن الأمرَّ من ذلك كله هو بقاء الشرائح العريضة والتي تتوسط المشهد أو تحتل مراتبه السفلى في درك المعاناة على حساب إدارة العلاقة وتجدُدها من لحظة لأخرى بين السلطة والأعيان الاجتماعين ومن يمكن أن يساهم ويؤثر في ما يخدمُ مصالحهم إيجابا في تلك المسألة ، على حساب الشريحة العريضة والتي هي محسوبة على من يملك حق الكلام باسمهم ومن يُعتبر وجوبا أو بشكل عفوي بمثابة واسطة بينهم وبين الدولة وأجهزتها ، فيتم تهميشهم وإبقائهم في مكانهم الخارج عن السياق من أجل أن تستمرُ الأمور في الدوران وتعيد إنتاج نفس المتحكمين حقبة بعد أخرى .
وهي سياسة قديمة رسختها السياسية الاستعمارية الفرنسية في المنطقة عندما اختارت فرنسا التعامل مع نفس البنى الاجتماعية القديمة التي كانت موجودة قبلها وإبقاءها في محلها بشكل مخالف وبمقاس يخدمُ مصلحتها هي دون غيرها ، فتمّ بناء على ذلك عزلُ مشايخ معينين وتعين آخرين مكانهم تربطهم علاقات قوية مع الإدارة الاستعمارية ليكونوا ممثلين لها في مجموعاتهم القبيلة ووكيلا عليهم أمامها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومشهودة شهود العيان ، تمت من خلالها تهميش قيادات اجتماعية قديمة وإنتاج أخرى في مجموعات قاومت أو لم تقاوم حتى من أجل بسط السيطرة وإحكامها على المجتمع المحلي.
ولم تستطع الدولة عن قصد أو غير قصد تجاوز فاعلية تلك البنى في مراحل إنتاجها وتشكلاتها المختلفة أحرى أن تهمشها ، وكانت كل محاولة جادة لكسر تلك الفاعلية وذلك التأثير تبوء بالفشل لأسباب يتداخل فيها الأمني مع السياسي والاجتماعي في آن واحد ، فتواجدت القبيلة بشكل أكثر في السنوات الأخيرة أكثر من السابق وزادت فاعليتها فاعلية في ظل استخدام التعددية الحزبية والديمقراطية ، وهو أمر إن كان مخالف لما نصت شرعية اللعبة الديمقراطية وما جسدت في الغرب وفي حكومات عالمية عدة ، فهو متطابق مع الهوية العربية الاجتماعية وبما أغرست الهجرات العربية في المجتمع المحلي ، فيستحيل تهميش القبيلة ووحدتها سياسيا في مجتمع عربي حديث عهد بالبداوة والنشوء ، تماما كم يستحيل نفيّ دور العشيرة والقبيلة والمجموعات العصبية على اختلاف دلالات المفهوم _ العصبية_ وتشكله "حسب تعبير ابن خلدون" في أي مجتمع عربي تأثيرا في المشهد السياسي .
وهذا واقع إن كان مرتبط بالهوية الثقافية العربية المتجذرة والمتحكمة في مجتمعنا فإن طريقة إدارتها تعاني من الكثير من التشويه وتحفها أنواع مختلفة من الإقصاء وإعادة إنتاج الوجهاء المتحكمين بصيغ مختلفة على حساب السواد الأعظم من الناس بحجة المحافظة على المصالح العامة وعلى وحدة المجتمع أحيانا ومصالح الدولة والوطن في أحايين أخرى .
والأمر لا يكون طبيعيا إذا ما حاولنا إسقاط نظريات ابن خلدون حول العصبية والتغلب والتي تفيد بشكل مقتصر على أن دلالات مختلفة مشتقة من مراحل تشكلها هي _ العصبية_ مرورا بمراحل نضوجها إلى انعدامها واختفائها حسب مراحل النشوء والقوة والانتشار التي تمر على الدوَلِ ، فعند تأسيس دولة معينة تكون العصبية المتحكمة تعتمد على روابط القرابة والدم ، وعندما يستقر لها الأمر تأتي مرحلة الانفراد بالحكم مما يدفع إلى ظهور عصبيات الاصطناع الحامية للملك دون منافسيه من ذوي القرابة والدم .
وهو ما يعني أن الاعتماد على عصية القرابة والدم تأتي في مراحل تشكل الدول الأولى وعندما تتشكل الدولة ويستدب لحاكمها الأمر تختفي وتنجلي ، أي تتحول تلك الرابطة إلى حرج يريد من يحكم أن يتخلص منه ويُقرب بدلا عنه آخرون كحامين للملك بدل من تتوفر فيه شروط التضامن الأولي .
وإذا ما نظرنا إلى واقع المجتمع الموريتاني نجد أن الأمور معكوسة في ظاهرة غريبة قياسا على ذلك ، وهو أمر قد تكون ساهمت في تواجده بصيغة مخالفة ظروف سياسية خارجية أكثر من الظروف الداخلية التي كانت راهنة إبان تأسيس الدولة ، فمعروف أن التأسيس جاء كهبة من فرنسا ومعروف أن أول إجراء سياسي اتخذته الحكومة الجديدة بعد استقلال موريتانيا هو نزع الاعتبار من الأمراء السابقين وهو أمر كان لابد منه من اجل ضمان سيادة الدولة وتفردها في تلك السيادة على حساب تهميش الزعماء التقليدين السابقين خصوصا إذا ما علمنا أن الرئيس الجديد أو المؤسس لموريتانيا لم يكن من ذوي الزعماء التقليدين ، مما يعني أن تهميشهم كان في صالحه أكثر من أي شيء أحرى أن يكون مرتبطا بتعزيز سيادته هو وسيادة الدولة التي اُعتبر مؤسسا لها .
وظهرت تبعا لذلك في ما تلاحق من سنوات قليلة ما يمكن أن يعتبر بمثابة عصبية اصطناع أو عصبيات اصطناع كانت تجمع بينها المصالح المرتبطة باستمرار الجهاز السلطوي وما حقق الأفراد المتحكمون فيه من رتبٍ سياسية واجتماعية ، وبدأت في السنوات الأولى أيضا تخفتُ قوة القبيلة في مقابل تنامى الوعي الوطني وتواجد الدولة كحاضنة اجتماعية بدل القبيلة ، لكن عندما قررت موريتانيا إرساء التعددية الحزبية تبدل كل شيء وعادت الأمور إلى مجاريها وإن بصيّغٍ مختلفة جدا ، فالقبيلة لا زالت موجودة لكن لا يجمعها البحث عن الكلأ والمرعى والتضامن البيني من أحل الدفاع عن الذات بل من أجل الحصول والمشاركة في مغانم الدولة التي عوضت عن كل ذلك ...
فالعسكري وهو يأمر جنده ويحفظ مصالحهم الوظيفية يرتبطُ بشكل قوي بقوى اجتماعية قد تحاسبه في بعض الأحيان على مصالحها وقد تستدرجه بما تُقسم عليه من رتبٍ وتمييز عن غير أبنائها ، وهو ما يعني أن أنواع التضامن " العصبي" الذي أشرنا إليه سابقا عند ابن خلدون كان حاضرا في آن واحد لتأدية وظائف متلاحمة وقد تكون متعارضة في نفس الوقت .
والأمر المدمرُ في كل ذلك هو أن الدولة هي من ترعى ذلك التناقض وتتفهمه بل وتدعمه في بعض الأحيان على حساب تعزيز مكانة أفراد معينين وإقصاء عريضة كبيرة تبعا لمصالح أؤلائك المتنفذين ، فتجد اجتماعات لأفراد قبائل هم كوادر في الدولة باسم قبائلهم الغائبة أو المغيبة من أجل إنتاج وإعادة إنتاج مكانتهم في السلطة وضمان استمرار تمكنهم من التكلم باسم الغائبين
كان الله في عون موريتانيا 

22. يوليو 2017 - 12:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا