ترتيل القرآن الكريم وتدبره وتذكره، وإعمال العقول والألباب فيه،غايات ومقاصد دينية أصلية، نزل لها القرآن الكريم؛ كما قال تعالى:{ورتل القرآن ترتيلا} وقال:{كتاب أنزلناه إليك مبارك؛ ليدّبَّروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب}. ولكي يتقن القارئ ملكة التدبر والتذكر، فإن عليه أن يرتل القرآن العظيم ويقرأه، شراكة بين مختلف أدواته للمعرفة: لسانه وسمعه وبصره وفؤاده؛ فباستجماع كل تلك الطاقات
والقوى التي ميزته كإنسان، تتنزل آيات الله على قلبه، طرية ندية، فتسلل أنوارها إلى مجاميع نفسه، ثم تكون نبراسا هاديا، يبدد ظلام الوهم والظنون، وركام الخرافات والأوثان المادية والمعنوية؛ وبوصلة عاصمة في تيه الآراء والأهواء، وصحراء الرغبات وسعار الحاجات، ومنقذة من أوحال التقاليد والأعراف والعادات الخاضعة لنسبية الزمان والمكان والإنسان.
وبتدبر القرآن وتذكره، كما أمر الله تعالى، يكتشف الإنسان من فيوض هذا الكتاب العزيز، ومن عجائبه وأسراره، ما يجعله يعيد حساباته، بعد كل قراءة، فيجدد إيمانه والتزاماته، ويتحقق من مواضع أقدامه، في سيره إلى الله تعالى. ومن عجائب القرآن وأسراره التي لا يمنحها إلا للقارئ المتدبر المدّكر، ما يفتحه في جدار التقاليد ومألوفات الآباء القائمة على قلق الظنون، من أفق معرفي قائم على اليقين المطمئن، والمتمثل في المساحة الشاسعة التي يحتلها حديث الكتاب المبين، عن سنن الله النافذة التي لا يطالها التبديل ولا التحويل، والتي لا تحابي أحدا، برا كان أو فاجرا؛ ولفتاته إلى النواميس الكونية المتصرفة بأمر الله وحكمته، في السماوات والأرض، وعن النتائج التي لا تتخلف عن مقدماتها، في تلك السنن والنواميس، وعن أثر كل ذلك على الأمم والشعوب، أفرادا وجماعات ودولا، وعلى مصائر ومآلات الأقوام والمجتمعات والأشخاص والأشياء؛ و على الزمان والمكان والتاريخ.
إن من المفارقات، بل من أكثرها إثارة للعجب، وأشدها حاجة إلى مبررات مقنعة غائبة، ضمور الحديث في تراث الأمة الثري، عن تلك السنن الإلهية، والنواميس الكونية؛ ففي حين لا يكاد حديث القرآن الكريم يتوقف عنها؛ عن حقيقتها، ماهيتها، شموليتها، مقدماتها ونتائجها؛ وعن دورها في التاريخ والمصائر، وعلاقتها بالتداول والتدافع، وبالسعادة والشقاء، وبالثواب والعقاب، وعن مكانتها في جدلية الحتمية والأسباب؛ لا تكاد تجد لتلك السنن ذكرا في ذلك الجبل الأشم من تراث الأولين، سواء في مطولات تفاسير القرآن نفسه، أو في كتب الروايات والسير، أو موسوعات التاريخ، أو مقالات المتكلمين، أو أمهات الأصول والقواعد، أو مصنفات الرقائق والترغيب والترهيب، فضلا عن المتداول من متون الفروع والفتاوى والنوازل والمختصرات، نظما ونثرا !
ترى! لم كان حديث السنن والنواميس، ضامرا جدا، بل غائبا في الأغلب، عن ذلك التراث العريض؟ هل لذلك الضمور وتلك الغيبة المريبة،علاقة ما بإرادة متحكمة من أي نوع؟ ما دور الفتنة الكبرى وثاراتها وتبعاتها، والانتقال الدامي من الخلافة إلى الملك العضوض، والتداول القبلي العنيف للسلطة، في تغييب الحديث عن السنن الماضية؟ هل لنشوء الفرق والملل والنحل، وتمايز المذاهب والطوائف، دور في عدم الحضور المكثف لذلك الحديث ، في التراث الإسلامي؟ أي أثر لترجمة ثقافات ومعارف الأمم السابقة، في غيبة السنن عن سجلات الفكر والفلسفة الإسلامية، رغم حضورها الغالب في القرآن، وأثرها المهيمن على وقائع الأحداث، وواقع الناس، وفصول الك التاريخ؟!
يتبع.........