انفجر الصراع السياسي المحتدم منذ عدة أشهر صباح الأربعاء (6/8/2008) كالبركان الهائج: الرئيس المنتخب ينقلب على حلفائه العسكريين فيقيلهم دفعة واحدة، والجنرال ولد عبدالعزيز المعروف بخطواته الجسورة ينقلب على الرئيس معلنا استحواذه وما سمي «المجلس الأعلى للدولة» على صلاحيات
الرئيس «المنتخب» بصورة ديمقراطية نادرة في محيط موريتانيا العربي والإفريقي، مع أن ولد عبدالعزيز ذاته يبقى هو صانع الأغلبية الانتخابية للرئيس، مما جعل البعض يعتبره منتخبا بالتزوير من حيث الجوهر لا الشكل، وجميع السياسيين قبلوا بتلك النتيجة باعتبارها خطوة أفضل مما كان سائدا من قبل.
بعد تبادل الحلفين السابقين ردات الفعل المتسرعة، أدرك الجميع بشكل واضح كيف أن موريتانيا ومصالحها واستقرارها غدت رهنا لتصرفات غير مسؤولة من طرفي المعادلة السياسية: العسكر بقيادة الجنرال ولد عبدالعزيز وكتائبه البرلمانية، وولد الشيخ عبدالله والحركات السياسية اليسارية التي أُدخلت ليس من أجل المصلحة الوطنية والتصدي لتحديات اللحظة، ولكن من أجل الاستقواء بها في وجه الحلفاء العسكريين. وتلك كانت خطوة إدخال جناح من المعارضة في «الأغلبية» للاستقواء بها وليس كما قيل رهانا على مصالح وطنية، أو استجابة لتحديات التنمية والغلاء في راهن اللحظة.
الأسباب السياسية لأزمة الرئيس والعسكر
يتفق العديد من المراقبين على أن متغيرات سياسية جديدة هي التي تقف وراء اشتعال نار أزمة صيف الحول الثاني من حكم الرئيس المخلوع من طرف حليفه الأساسي محمد ولد عبدالعزيز. ويمكن أن نرصد في هذا السياق أربعة أسباب رئيسة هي:
1 - تحول الولاءات السياسية: فالرئيس المخلوع اختار لنفسه -وبصورة استقلالية عن حلفائه الاستراتيجيين (وهم الجنرالان عبدالعزيز وغزواني)- حلفاء تعكسهم بتمعن خريطة المستشارين في الرئاسة.
كما أنه مال إلى زملائه القدماء من اليسار، محاولا تطعيمهم بالإسلاميين والزنوج الموريتانيين ورجال أعمال من القطاع الخاص من أقارب الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد
أحمد الطايع، يتقدمهم السياسي المخضرم أحمد ولد سيدي باب.
2 - القوميون ويمين اليسار: كما أن العسكر أيضا اختاروا حلفاء جددا ممثلين في التيار القومي الناصري والبعثي لأسباب تتعلق بتفادي التذمر السياسي داخل المؤسسة العسكرية التي يتواجد فيها بكثرة التيار القومي، والذي قادت الانتخابات الماضية إلى تهميشه، إضافة إلى العديد من الشخصيات والمجموعات التي يأتي في مقدمتها الجناح الثاني من اليسار ممثلا في حركة «التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية»، والمستفيدون الجدد من رجال الأعمال المقربين من بعض العسكريين، خصوصا الجنرال محمد ولد عبدالعزيز القائد التنفيذي للانقلاب الحالي.
3- الخلاف حول إدارة بعض الملفات: يأتي في مقدمتها ملف الإرث الإنساني الذي يرى العسكريون أن الرئيس عالج الجزء المتعلق منه ببرامج عودة اللاجئين بصورة متسرعة، تفتقد الحنكة والمناورة السياسية المطلوبة في مثل هذه المواقف، لأن الشق السياسي للملف سيظل عالقا كأداة وسوط بيد السياسيين الزنوج المنقسمين على أنفسهم والقوى الكبرى والإقليمية الداعمة لهم.
كما سيشكل برنامج العودة الحالية مجرد أداة اختبار جزئي لجدية الدولة الموريتانية التي قدمت اعترافا رسميا على لسان أعلى سلطة بـ «خطيئة ارتكبتها» ضد مواطنيها الزنوج الذين يرفض قسم كبير منهم العودة لسوء الأوضاع في موريتانيا. في الوقت الذي سكتت فيه الدولة الموريتانية عن
حقوق مواطنيها الذين تعرضوا لفقدان ممتلكاتهم وتمت تصفية مئات منهم، لكن «دمهم تفرق اليوم بين قبائل السياسة» الدولية والإقليمية، وغباء سياسات الأنظمة الموريتانية المتعاقبة.
4- الخلاف حول وضعية المؤسسة العسكرية: فرابع الأسباب هو سعي الرئيس «تأكيد هيمنته» على المؤسسة العسكرية للرأي العام من خلال تحويلات واسعة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، تهدف إلى إنهاء نفوذ حليفيه عبدالعزيز وغزواني وهيمنتهما على المؤسسة العسكرية والأمنية، وهو ما أكده قرار الرئيس الإقالة الجماعية لقادة العسكر، والذي مثّل رصاصة الرحمة الموجهة بشكل أساسي للصورة الخارجية لما سُوّق في موريتانيا على أنه مسيرة ديمقراطية متفردة. وهو القرار المشؤوم الذي ولّد «ردة الفعل الانقلابية» من طرف ولد عبدالعزيز مباشرة ساعات بعد ذلك، لتدخل البلاد أزمة سياسية لم تنجل آفاقها بالشكل الكافي بعد، لكن الخاسر الأكبر فيها هو الشعب الموريتاني الذي راهن على التجربة الديمقراطية رغم نواقصها المعروفة، رجاء أن تشكل جزءا من ركام يفيد في المستقبل.
5- مخاوف الرئيس من جره للمحاكمة وإسقاطه بطريقة غير شريفة: وهذا ما يدافع به حلفاء الرئيس عن خطوة إقالة العسكر دفعة واحدة، والتي بدت خطوة غير حكيمة وتفقد الحنكة والحكمة والتعقل الذين عادة ما يوصف بهما الرئيس ولد الشيخ عبدالله. وفعلا جاء قرار الإقالة الجماعية في سياقه وملابساته غير منسجم مع شخصية الرئيس الهادئة التي يعرفها الموريتانيون، وظن العديدون في الساعات الأولى أن الرئيس بقرار الإقالة الحازم في ذلك الوقت كأنه كان يبث بشرى سارة لأنصاره ويجرّع كأس علقم لخصومه، وتحديدا في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، لكن الأنباء غير السارة التي أعلنت البيان رقم واحد أكدت دخول البلاد في أزمة سياسية تلك بدايتها، لكن لا يعلم أحد ربما نهايتها المفرحة أو المحزنة، ولكنها كشفت بشكل سافر عجز الرئيس عن
إدارة الأزمة بصورة تجنب البلاد كوارث سياسية محزنة ومفجعة.
الأزمة الموريتانية ومخاطر التدويل
عرفت موريتانيا خلال تاريخها أزمات سياسية خطيرة وهي لا تزال دولة ضعيفة، لكنها تعافت بفعل اقتناع القادة والشركاء الأساسيين بضرورة سيادة واستقلالية القرار السياسي الموريتاني. لكن الأزمة الحالية في موريتانيا ستكون بداية فعلية لتعود العديد من دول الإقليم والدول الأوروبية -فرنسا وإسبانيا- إلى التدخل السافر في السياسات المحلية. وكان ضعف موريتانيا يدعوها في كثير من الأحيان لخفض الجناح لتلك الدول، لكنها ظلت تحافظ على سيادتها ولم يكن ثمة ربما ما يغري الأطراف الخارجية بالتدخل في السياسات الموريتانية.
ولكن تظهر بوادر الانقسام الحالي، ومسارعة جميع الأطراف لإضفاء أو نزع الشرعية من خلال الاعتراف أو عدم الاعتراف الخارجي بأن حظ التدخل الخارجي في الشأن السياسي الموريتاني سوف يتضاعف ما دامت الأطراف الموريتانية ذاتها ساعية لهذا التدخل ومباركة له بفعل اللجاجة في الخصومة. وهي خطوة غير موفقة، لأنها ستجعل البلد واستقراره السياسي رهين إرادة القوى الدولية والإقليمية.
والشروط الجديدة التي سيدخلها الصراع الحالي ستكون مجحفة بالبلد مستقبلا أكثر مما ستفيده راهنا.