في دولة عربية شقيقة، كان للرئيس حارس طويل، أجبروه أن يقف بطريقة مائلة، حتى لا يبدو أطول قامة من الزعيم، حافظ الحارس سيئ الحظ، على تلك "التوجيهات السامية"، وظل يؤدي حركته البهلوانية تلك سنوات عديدة وبالميليمتر، حتى انتهى به الأمر مقعدا على كرسي متحرك، بسبب الروماتيزم،
حين مات المسكين، داخل غرفة قذرة ورطبة، في أحد مستشفيات الدرجة الثالثة، أقاموا له حفلة صغيرة،
ومنحوه وساما عرفانا بالخدمات "الجليلة" التي قدمها لوطنه،
أنظمتنا السياسية، سيئة السمعة، بحاجة إلى من يعيد إليها الإنسان، من يرسلها في دورات تكوينية خارج البلاد، من يحقنها بجرعة قاتلة من الصدق والتعفف والديمقراطية وحقوق الإنسان، رجل مجنون يملك من الشجاعة والإقدام ما يكفي، يطلب من الزعيم أن يفسح قليلا، لكي يترك مكانا للآخرين، فهم أيضا لهم الحق، في أن يظهروا على البطاقات البريدية للوطن،
بعد الاستقلال، ذهبت السنغال تجرب حظها مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وذهبنا نحن إلى حكم الفرد والحزب الواحد وزمن التسبيح بحمد الزعيم، بعد حوالي ستة عقود النتيجة واضحة كالشمس في رابعة النهار، السنغال تمشي مطمئنة نحو تناوبها السلمي الرابع على السلطة، ونحن بكبيرنا وصغيرنا نحاصر المادة 28، نحشرها في الزاوية، ونصوب إليها خراطيم بنادقنا البائسة، ونعد ذلك بطولة وملحمة وطنية،
الضحالات والسطحيات السياسية، تبدأ دائما صغيرة ومضحكة، ثم تتحول مع مرور الوقت إلى جبال من الركام والقصص المفجعة والمحزنة،
في زمن حرمه من كل شيء، خلق الراحل الرائع، حبيب ولد محفوظ لنفسه مساحة رحبة، زاوية أنيقة، على قطعة من ورق جريدة "القلم"، كان يمارس عليها أنواع الجنون أصالة عن نفسه ونيابة عنا،
سخر من كل شيء، سخر من الوطن من أوله إلى آخره ومن الحاكم وزبانيته، ومن الانقلابات ومن الانتخابات ومن الخطابات، وسخر من نفسه ومنا ومن كل أكاذيبنا، قصيرة المدى ومتوسطة المدى وطويلة المدى،
عشقنا الرجل لدرجة الجنون، لأنه عرف كيف يفضح أمرنا، كيف يعرينا ويضربنا على قفانا، كيف يجعلنا نضحك من أنفسنا ونبغضها، وإذ يبلغ ذروة عطائه، يرحل الرجل عن دنيانا مبكرا، كأنما أخذ على خاطره منا، فيجعلنا نحس بيتمنا وضعفنا وقلة حيلتنا، ونقيم له نصبا تذكاريا داخل كل واحد منا،
الإنسان على مر الأزمان، شيد حضارته وصنع انتصاراته بالجنون: يوليوس قيصر، وهو يعبر نهر الروبيكون كان يمارس الجنون، طارق ابن زياد، وهو يحرق مراكبه ويخطب في أجناده كان يمارس نمطا آخر من الجنون، الأخوان رايت، وهما يحاولان الطيران بتلك الآلة المضحكة، كانا غارقين في الجنون،
مانديلا، حين خرج من السلطة، بعد مأمورية رئاسية واحدة، وهو ما هو في نفوس شعبه "ماديبا"، كان يقف على حافات الجنون، ديغول، حين قال "لا" لحكومة فيشي، ووضع المفتاح تحت الباب ورحل، كان يغادر إلى الجنون، سنغور، وهو يخرج من قصره في دكار، إلى بيت ريفي في بلاد الغال، كان يجرب الجنون، غاندي، إذ يقود الهنود نصف العراة ضد بريطانيا العظمى، وهو يرتدي دثارا نسجه بنفسه، من نوعية رديئة من الصوف، كان يمارس أرقى درجات الجنون، في هذا العالم،
في موريتانيا، أصبحنا بحاجة ماسة للغاية، إلى ممارسة نزر ولو قليل من الجنون، لكي نهز أنفسنا ونرج أدمغتنا، حتى لا يقتلنا الضجر:
رئيس، يضرب الطاولة حتى يتطاير الغبار، ويصيح فينا: "الدستور خط أحمر"!
وزراء ومسؤولون كبار، يستقيلون من مناصبهم، لأتفه الأسباب!
خبر رئيس في عناوين مسائية "الموريتانية"، يتحدث عن انتقادات حادة للتعديلات الدستورية!
ساعي بريد بثياب مهلهلة، يصل على دراجته النارية، ليسلم إذاعة موريتانيا، إنذارا شديد اللهجة من طرف الهابا، بعدما تجاوزت كل الحدود، ووصلت إلى المنحدرات الخطرة!
قيادي بارز في الحزب الحاكم، ينتقد الحكومة، ويتحدث بحرقة عن الأوضاع المزرية لبعض الساكنة!
فنانون يغنون للوطن، بكلمات بحجم وعنفوان كلمات الشابي: أيها الشعب ليتني كنت حطابا، فأهوي على الجذوع بفأسي!
كتاب ومثقفون وإعلاميون وسياسيون، يفكرون بعقولهم من أجل وطنهم، لا ببطونهم من أجل حساباتهم المصرفية أو كراسي تسع مؤخراتهم!
عناوين صباح، تجعل رؤوسنا تطير من فوق أعناقنا، من شدة الذهول والدهشة!
وهكذا دواليك...
الأوطان التي لا تمارس قدرا معقولا من الجنون، تنهمر الشيخوخة مبكرة على وجهها، وينتهي بها الأمر في الممرات الأخيرة المؤدية إلى النسيان.