تلبس القانون بالسياسة في موريتانيا / محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

1. يتعين، في مستهل هذه المعالجة، التنبيه إلى أنه من المنظور النظري العام ثمة خلاف حول ما إذا كان الفكر القانوني هو مصدر النبض السياسي أو  العكس وممن تصدى للإشكال الفقيه المغربي العلمي المشيشي الذي قال: "مما لا جدال فيه أن القانون هو مجرد تعبير عن الفكر السياسي، ولكن بمجرد أن
يتحول الفكر السياسي إلى حكم قانوني، فإن السياسي (الرجل السياسي مصدر الفكر) يخضع للقانوني وإذا تغير

 رأيه بتغير الظروف، وهذا شيء طبيعي، أصبح لزاما عليه أن يغير الحكم القانوني الذي سوف يخضع له وهذا هو جوهر ما يهيمن على الساحة الفكرية من فلسفة دولة الحق والقانون".. ولئن كان تناول جدلية القانون والسياسة لا يزال من قبيل الترف الفكري في موريتانيا إلا أن الإهتمام بالموضوع يقرب الشقة بين ساحتي الفكر والسياسة ويساهم في ردم
الهوة التي فاقمتها "المحن القانونية" الناتجة عن الإرتجال الملازم للحكم
العسكري الذي استحل موريتانيا قبل أن تكمل عامها الثامن عشر.
2. وللتقريب يسوغ استخدام منطق علم الأحياء بالقول إن القانون والسياسة
وريدان نابضان في أجسام الدول الصحيحة التي يتناغم فيها ضغطهما وينسجم
أما في بلدنا فمن الأقرب للأذهان استعارة المنطق الميكانيكي بالقول إن
القانون يجب أن يلعب دور الزيت الذي يغمر قطع المحرك وييسر انزلاقها
ليقيها من الإنصهار عندما يحمى عليها بينما يتعين أن تقوم السياسة مقام
الماء في تبريد الزيت الذي يرفع المحرك درجة حرارته ولذلك ينبغي بذل
العناية لصيانة الحاجز المانع من تماس السائلين لأن تسرب الماء إلى داخل
المحرك أو نفاذ الزيت خارجه وامتزاجهما يؤدي لارتفاع حرارة المحرك
والتحام مسنناته كما أن استخدام الزيوت ذات اللزوجة والمواصفات غير
المدروسة يشكل خطرا لأنه لا يؤدي الدور المنوط به. وتحاول هذه المعالجة
تشخيص العلة وتقديم المساعدة القانونية لتخفيف الدخان المنبعث من عوادم
الدولة الموريتانية بينما تغض قيادتها الطرف عن المؤشرات وتحمل السفينة
على اجتياز العراقيل المعتبرة التي تعترض سبيل الإستفتاء المنتظر.
3. إن المكائد السياسية التي لا تراعي القانون تؤدي لارتكاسات مدنية تسبب
الحرج لرجل القانون وتطرح عليه إشكالية الإلتزام السياسي ولذلك تواجه
التعديلات الدستورية رفضا مبدئيا غير مسبوق من جمهور القانونيين ترجمته
إعلانات نقباء المحامين السابقين و"مبادرة الدفاع عن المكتسبات
الدستورية" أما الآحاد فيكتم بعضهم قناعته بينما يحاول البعض على مضض
صياغة تبريرات يعلم في قرارة نفسه أنها واهية ولكن مجاراة التيار
تفرضها.. فليس على المواطن المسؤول المدرك لآليات الحكم وضوابطه، من
سبيل، سوى أن ينتهج نهجا معارضا، عندما تتعرض السلطة التشريعية للتهديد
ويرفع الستر عن المراسلات الخاصة التي يتضمن الدستور النص على ضمان
الدولة لسريتها بينما يذعن القضاء أو يساهم في التجاوزات التي تتوج
بتشكيك الوزير الأول علنا في الإلتزامات الدستورية عن طريق دعوة رئيس
الجمهورية للحنث ويقرر الطاقم المتصرف في شؤون الحكم انتهاك المسطرة
المقررة دستوريا لتعديل النظام الأساسي للجمهورية المنهمكة في استفتاء
يرفضه السواد الأعظم من المواطنين المستنيرين لما يمكن أن ينتج عنه من
تعطل المحرك الدستوري ولما سيكلفه من أموال عامة بينما يتداعى الإقتصاد
وتنتشر البطالة ويكتسح الجوع وحتى العطش ربوع الوطن. صحيح أن من القمين
برجل القانون، الذي يتبنى الحياد ولا يتحفز لخوض غمار المعترك السياسي،
أن يتحفظ ويبقى على مسافة معينة من الفرقاء السياسيين لأن مصلحة الوطن
تقتضي بقاء البعض خارج حلبة الصراع.. ولكن عندما تبسط السلطة التنفيذية
هيمنتها على السلطتين التشريعية والقضائية وتقرر الحشد لخدش الوثيقة
الأساسية للحكم، دون مراعاة مسطرة التعديل المقررة دستوريا، حينها يضحي
السكوت إثما ويتوجب إسماع الرأي العام صوت القانون المحايد فالكيان الحي
لا يستغني عن مقاومة قانونية تحفز المناعة المدنية على التصدي للتجاوزات
خاصة وأن بعض أحكام القانون ملتبس لا يتأتى كنهه من ظاهر النصوص وإنما
يتوجب استحضار روحه التي تعكسها المقاصد الدستورية.. وجلي أن عمل التنوير
لا يذهب سدى فقد كان له إسهام فيما تحقق من مكاسب كان آخرها إيقاف مجلس
الشيوخ لإرادة السلطة التنفيذية وهي سابقة سياسية ومكسب دستوري ذو بال
لأن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" كما أن إفصاح رئيس الجمهورية أخيرا،
وعلى استحياء، عن نيته البر بقسمه ومغادرة السلطة التنفيذية، في الآجال
المحددة دستوريا (مهما أثار معسكره حولها من تشويش لا ينكره الرجل) يعد
مكسبا ثانيا، وسيكون سقوط التعديلات الدستورية المترنحة مكسبا ثالثا و..
رابعا وخامسا.. وبتراكم الأساليب الحضارية في ممارسة السلطة وتقييدها
ومراقبتها يتحقق الإصلاح وتتأسس دولة قانون متوازنة مبنية على دعائم
ثابتة وسلطات متعددة يوقف بعضها البعض.
4. الدولة ليست كالثكنة العسكرية المنقطعة التي تتيسر إحاطتها بالعراقيل
والمتاريس لتسهل مراقبة البراري المحيطة بها والتي يتأتى الرجوع في كل
شأنها للقائد بل هي أشبه بالسفينة المبحرة في محيط متحرك تتأثر به ويؤثر
فيها ولضمان استمرار إبحارها يتعين أن توكل المهام الفنية للمختصين وأن
يتعاون الطاقم والركاب فبينما يتفرغ البعض لمراقبة خط الرحلة يتابع آخرون
جوانب المسار ويعكف آخرون على معطيات الطقس.. ومن أسباب الإبحار الآمن أن
لا يهمل الطاقم ملاحظات المراقبين المستقلين الذين قد يستشعرون عاصفة أو
يرمقون جبل جليد لا يرصده الطاقم خاصة وأن وسائل الإستكشاف لم تعد مركزة
في قمرة القيادة التي يتخوف الكثيرون من عدم توفرها، في الوقت الراهن،
على الوسائل البشرية المؤهلة لضمان ملاحة آمنة.. فبعد أن تكررت الكتابات
والتصريحات الهادفة إلى إقناع رئيس الجمهورية بأهمية القانون وتكريس
سيادته يبدو أن الخطاب لم يفلح، حتى الآن، في تغيير التوجه إذ لا يزال
تهميش القانون، الذي يشكل روح الدولة، سائدا في دوائر حكم هذا البلد التي
تستحوذ عليها المراوغات والمكائد السياسية أكثر من أي وقت مضى.
5. وفي خضم التجاذب الناجم عن إسقاط مجلس الشيوخ للتعديلات الدستورية
تابعت مقابلة تلفزيونية مع السيد محمد سيد أحمد ولد محمد الأمين (شيخ بو
امديد) أعرب خلالها عن فكرة نيرة مفادها أن رئيس الجمهورية والساعين
لتعديل الدستور، دون مراعاة المسطرة المقررة، هم المعارضون وهو مذهب مؤسس
لأن مفهوم النظام في الدولة هو العروة الدستورية والقانونية التي تتشبث
بها السلطات وتستمد منها صلاحياتها وإذا ما تخلى عنها الحاكم فإن ذلك
يعني أنه يعارض النظام ويميل للفوضى.. وحسبكم أن بعض المفكرين أعرب، منذ
القرن التاسع عشر، عن اعتقاده بأن النظام مهما اجتهد لضبط نشاطه فإنه
يجسد فوضى مستتبة (désordre établi) فكيف بنظام لا يبالي؟!
6. ومن أسباب الفشل المحتمل للتعديل الدستوري الإعتماد في تصوره على جهاز
هندسة قانوني محدود فنيا كما يعكسه عجزه عن إنتاج مقترح سوي: فرغم انطلاق
الحملات المؤيدة للتعديلات الدستورية وتحديد يوم الإقتراع بعد أقل من
أسبوعين (5 أغشت 2017)، نلاحظ أن التعديل لا يزال في طور المبادرة ولم
يتبلور مشروعه فلم تعلن مواد الدستور المستهدفة بالنسخ ولم تنتشر
المطبوعات التي تتضمن نص التعديلات المقترحة التي يحق التساؤل عنها، كل
ما طالعناه هو ما نشره موقع الأخبار من تسريب للنص البديل للمادة 8
المتعلقة بالعلم والتي تخللها خطأ في الصياغة يجعل الشريطين الأحمرين
المقترحين خارج الرمز الوطني وإلى جانبيه عكسا لتصور الأغلبية على نحو ما
بينه مقال مسؤولية السفينة الدستورية.
7. وفي محاولة لفهم مفارقة غياب نصوص التعديلات المقترحة عن ساحة الحملة
التي انطلقت بالفعل ربما تكون نفس الحكومة قد سولت لها خطة تتهيب الإفصاح
عنها علنا لحاجة في نفسها وبالنظر لأهمية الموضوع وغموض الموقف الرسمي
بخصوصه لا مناص من التخمين: ربما تقوم الإستراتيجية المعتمدة على رأي سبق
وأن عبر عنه الدكتور أحمد سالم ولد ببوط يقضي بأن يقتصر الإستفتاء
المنتظر على مبدأ التعديل الذي انقسم إلى مبدأين (العلم والمقتضيات
الأخرى) وأن لا ينصب على مواد محددة وهو ما يحتم بعد المصادقة المبدئية
إخراج نص مبيت وإصداره أو شروع السلطات في الإشراف على تحرير مقترح
التعديل ولتلافي الطعـن المتوقع في "حجية النص المحرر بعد الإستفتاء"
ستبرز أهمية إجراء استفتاء آخر يمكن السلطات من انتهاز الفرصة لتمرير
دستور جديد بالكامل تحقق من خلاله مآرب أخرى.. ومما يعضد هذا التحليل،
علاوة على عدم نشر النصوص المقترحة وغيابها عن الساحة، حديث رئيس
الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز نفسه في زياراته الداخلية، التي
بدأها يوم 24 يوليو 2017، عن عزمه على الإستمرار في التعديلات الدستورية
لإقامة نظام أساسي خاص بموريتانيا الجديدة وغير مقتبس عن المستعمر (مع
أنه يحتج بأن اللون الأحمر شائع في أعلام الدول المتمدنة!) ووعده بزيادة
عدد نواب الجمعية الوطنية! وحديث الأستاذ/ سيدي محمد ولد محم، رئيس حزب
الإتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، عما أسماه "سلسلة من التعديلات
الدستورية".. ومع أن التحليل يظل غير قطعي إذ يضعفه عدم استساغة إقدام
المسؤولين على ما قد ينجم عن الشك في حجية النص الدستوري من ارتفاع درجة
حرارة الطقس السياسي التي لم تكن منخفضة أصلا فإننا نهيب بالسلطات أن
تحرص على الإستقرار السياسي وأن لا تجعل الدستور كالقدر التي يذكر في
موروثنا الشعبي أنها تغلي باستمرار، فلا تكاد تلامس الأرض وتفرغ من بقايا
محتوياتها حتى تعود سيرتها الأولى منتصبة على التنور.. ولأن ارتفاع درجة
حرارة محرك الدولة، بالمنطق الميكانيكي، قد يؤدي إلى توقفها فإننا ننذر
قومنا بأن الزيت قد تسرب خارج المحرك وأن ما يموج فيه مجرد مياه "سياسية
لا لزوجة فيها" يتوجب تفريغها والمبادرة بعملية إصلاح شاملة.
8. إن فكرة دمج مؤسسات وسيط الجمهورية والمجلس الإسلامي الأعلى ومجلس
الفتوى والمظالم مبنية على فكرة صادرة عني شخصيا ضمنتها مقالي "علة
انفصام المرافق العمومية في موريتانيا" المنشور في عدة مواقع منها
الأخبار، الذي نشره يوم 15 يناير 2016 أي قبل الحوار بشهور وناقشته قناة
شنقيط التلفزيونية آنذاك في برنامج "استديو التحرير" وأثرت فيه خلل تقاطع
اختصاصات عدة أصناف من المؤسسات العمومية تؤدي أدورا متوازية لا لزوم
لتعددها ولم تكن المؤسسات الثلاث المذكورة إلا أحد أمثلتها ومن الحالات
المشابهة: - المفتشية العامة للدولة التي تهمش محكمة الحسابات، - أمن
الطرق الذي ينافس الشرطة، - خفر السواحل الذي يزاحم للبحرية الوطنية، -
الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب التي تنازع اللجنة الوطنية لحقوق
الإنسان (في الإشادة) ووكالة التضامن لمحاربة مخلفات الرق والدمج
ولمكافحة الفقر التي تعمل على خط المفوضية المكلفة بحقوق الإنسان ومحاربة
الفقر والدمج.. وقد كان من الأولى تصحيح الخلل بإلغاء المؤسسات المكررة
التي لا تتطلب تعديل الدستور وهو ما يتيسر بإلغاء المجلس الأعلى للفتوى
والمظالم وتفعيل المجلس الإسلامي الأعلى بدله لتعذر وخطر اجتثاث الجذور
الدستورية الموجب لإرجاء النظر في أمر مجلس الشيوخ ووسيط الجمهورية
ومحكمة العدل السامية إلى فرصة توافق وطني.. أما إنشاء المجالس الجهوية
فلا يحتاج لسند دستوري لدخوله في نطاق القانون.
9. إن انتهاك القانون الأساسي والتقليل من شأنه، بالقول إنه ليس مقدسا،
الذي يشكل الدعاية الأساسية لحملات التعديل الدستوري يعتبر من قبيل
الفساد الأكبر ويفاقم غياب "الأمن القانوني" الذي يستشعره المستثمرون
الأجانب القليلون ويدفعهم للإعتماد على شريك وطني يحظى بمدد سلطوي يمكن
أن يوفر الحماية بعد أن عاينوا عدم احترام القانون في هذه البلاد مما
يوجب على الموريتانيين أن يتعاونوا لتصحيح خلل دولتهم بإعادة الإعتبار
للقانون وفرض احترامه الذي يتطلب الرفع من مستوى الوعي المدني ونبذ
الخطاب السياسي القائم على التمجيد والتصامم عن النواقص الجلية التي لا
تخفى على المراقبين الدوليين والتي تعكسها التقارير المتعلقة بمؤشرات
التنمية الدولية والتردي الذي ما فتئ المقررون الدوليون يثيرونه وكما
ذكرت في مقال "غيوم الوقاية من التعذيب في موريتانيا" فإن تنظيف الوجه
أجدى من طلائه بالمساحيق.. ومهما قيل عن الإنجازات التي تحققت في حكم
الرئيس محمد ولد عبد العزيز فإن التجاوزات القانونية الكبرى كانت السمة
الغالبة في ظل حكمه وقد قدم الشيخ محمد ولد غدة لمحة مخيفة في برنامج
المشهد الدستوري الذي بثه تلفزيون المرابطون يوم الإثنين 24 يوليو 2017.
10. وجملة القول أن ما تعانيه الدولة الموريتانية حاليا من مشاكل
اقتصادية واجتماعية ناجم عن عدم احترام القانون الذي يتجلى دليله في الشك
حول آثار "يمين رئيس الجمهورية" وما أسفر عنه إسقاط مجلس الشيوخ لمبادرة
التعديل الدستوري من عودة العزم الرئاسي على بدئه بالإستناد التعسفي على
المادة 38 واللجوء للإستفتاء الشعبي المباشر الذي تستميت السلطات الحاكمة
لتمريره دون مراعاة المسطرة الخاصة المقررة في المواد 99، 100 و101 من
الدستور وغير ذلك مما عبرت عنه ببلية الدفاع عن الدستور لا به.. ومهما
يكن وإذا كان الساسة هم زراع القانون فإن ثماره لا تسمن ولا تغني من جوع
إلا عندما تنبت على أرضية أخلاقية لا بد من تعهدها ولذلك حملتني بوادر
"الشغب الدستوري" والتجاوزات المتكررة إلى محاولة إنارة الرأي العام حول
تلبس القانون بالسياسة في موريتانيا.. يتواصل.

26. يوليو 2017 - 17:29

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا