سنن الله ونواميسه.. بين حديث القرآن وتراث الإنسان (2) / أ.الحسن ولد مولاي اعلي

يتطلب تقديم إجابة يحسن عليها السكوت، عن كل أو بعض التساؤلات السابقة، إعادة استزراع الوعي الغائب بوجود تلك السنن والنواميس، وبحضورها المكثف الفاعل، على مسرح العالم كله، عًلويّه وسُفليّه، كقوانين منضبطة، ثابتة، مستقرة، مطردة، لا تتبدل ولا تتحول؛ كما يتطلب استكشاف جوانب من حكمة الله تعالى، في تسخيرها لتخضع لها عوالم السماوات والأرض، وما وراءهن، وتمارس في ظلها الخلائق من كل نوع،

 ومنها المجتمعات الإنسانية، على اختلاف دياناتها ومناهجها الأخلاقية والسلوكية، أقدارها ووظائفها ومكاسبها، وتجني نتائج من جنس عملها، وطبقا لمقدماتها، وتواجه المسئولية عن نجاحاتها وفشلها، وتلقى مصائرها ومآلاتها المقدرة، بالعدل والقسط، في تلازم حتمي، لا يتخلف، ولا يحابي أحدا، برا أو فاجرا.

إن الوعي الصحيح بالحضور المهيمن لتلك السنن والنواميس، في كل تفاصيل الوجود، والوعي بطابع الثبات، والشمولية، والدوام، الذي يميزها، هو ما يناسب حجم الحيز المخصص لها في الكتاب المجيد؛ فلقد ورد لفظ السنة صريحا في القرآن الكريم، ست عشرة مرة، مفردا، وجاء نكرة مجردا عن الإضافة مرة واحدة؛ وورد جمعا مرتين، وجاء مضافا إلى الله تعالى تسع مرات، ومضافا إلى الرسل مرة واحدة، ومضافا إلى الذين من قبلنا من الأولين، ثماني مرات. أما صيغ التعبير الكثيرة غير المباشرة، عن سنن الله ونواميس الكون، من خلال دلالات التلازم، و فحوى الخطاب ولحنه، وسياقات النصوص، فلا يمكن التصدي لها بالحصر. 

و لم يرد في القرآن الكريم لفظ الناموس، مفردا أو جمعا، لكن مفهوم سنة الله في القرآن، يشمل النواميس الكونية، فهي من صميم دلالة لفظ السنة،والذي لم يخرج، باختلاف استعمالاته، في القرآن الكريم،عن أحد أربعة معاني؛ أوضحها وأغلبها استعمالا، هو العادة النافذة المألوفة، المتلازمة في نتائجها ومقدماتها، (الحتميات) سعادة وهناء، بؤسا وشقاء، فوزا وانتصارا، هزيمة وانكسارا، رقيا وبناء، وفشلا وانهيارا. أما ثاني تلك المعاني التي يفسر بها لفظ السنة في القرآن الكريم، فهو الناموس الكوني الذي يحكم نظم الخلق وقوانينه؛ وأما الثالث فالطريقة المثلى، حيث أن سنة الرجل طريقته، خيرا كانت أم شرا؛ أما المعنى الرابع والأخير، للفظ السنة في القرآن فهو حكمة الله فيما يختار من مباح أو محظور، على رسله وأنبيائه، دون بقية خلائفه.

والآن، ما رأي القارئ الكريم في رحلة خاطفة، نعبر خلالها تضاريس مختلفة من تاريخ أمتنا، مستكشفين مواقع وآثارا من سنن الله وحتميات التاريخ، وكيف حقت كلمات الله، وتمت صدقا وعدلا، خيرا، وشرا، جزاء، وفاقا؛ ثم نهبط على مدرج التاريخ ومنعرجاته الحادة والمصيرية، لنتوقف مليا عند جانب من فعل السنن الإلهية في أمسنا القريب المتصل بحاضرنا المعيش، قبل أن نقوم، اعتمادا على استنتاجات الرحلة في الماضي، باستشراف ألوان طيف المستقبل المجهول على ضوء درس السنن الإلهية!


لنبدأ رحلتنا من حيث بدأ تاريخنا كأمة؛ أي يوم بزغ فجر الإسلام؛ وهل يكابر إلا غبي جهول، في أن العرب لم يكونوا، قبل الإسلام، شيئا مذكورا؛ كيف لا وقد كانت الصفة الغالبة عليهم، على امتداد جاهليتهم، وطبقا لنص القرآن الكريم، هي أنهم"الأميون"، وأنهم كانوا "في ضلال مبين"؛ وهما صفتان كريهتان، تتسع دلالاتهما العميقة، في السياق القرآني الذي جمع بينهما، حتى لتتداخل الحالتان، فتبدو كلاهما ممهدة للأخرى، أو مترتبة عليها، أو ملازمة لها.

ولقد بدأت رسالة الإسلام الحنيف، أول ما بدأت، ببرنامج إنقاذ لتلك الأمة الموغلة في الضلالة والجهالة، يوم هبط أمين وحي الله جبريل عليه السلام، على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأول أمر تكليف رباني، وكان أمر تكليف ثقافي، لبدء محو صفة الأمية باسم الله:{اقرأ باسم ربك} ليبدأ معراج الأمة من الحضيض إلى الأعالي، في نقلة لا مثيل لها في التاريخ؛ نقلة لعبّاد الحجر، إلى سيادة  البشر، ولرعاة الغنم، إلى قادة الأمم؛ وتحول جذ ري من الضعف إلى القوة، ومن العمى والجهالة، إلى الهدى والمعرفة.

كم كان وسخا قذرا، غسيل الجاهلية العربية الذي نشرته سور القرآن(الأنعام مثالا)، بدءا  بالشرك بالله وعقوق الوالدين ووأد البنات وقتل الأولاد سفها، مرورا باقتراف الفواحش والعلاقات المحرمة ونكاح المقت، وصولا إلى استحلال الدم والخنزير والميتة والخبائث.. وغير ذلك كثير. لقد أجملت مرافعة تاريخية مشهودة ومشهورة، قدمها السابق إلى الإسلام جعفر بن أبي طالب، أمام النجاشي، ونجا بها هو وأصحابه المهاجرون الأولون إلى الحبشة، من خطة عمرو بن العاص، لاسترجاعهم والعودة بهم إلى مكة، ثمنا للهدايا الثمينة التي حملها من مكة إلى صديقه الملك وحاشيته؛ أجملت تلك الخطبة مساوئ الجاهلية الأولى، وصورت دقائق أحوالها تصويرا دقيقا، بين ر حال حاضرة مكة، وهي عاصمة العرب الدينية والاقتصادية، يومئذ.....

قال جعفر في مرافعته: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف"؛ فأي جهالة تلك، ووأي ضلال....إنها الأمة الغارقة في السفه والفساد، وقد من الله عليها، فبعث فيها نبيا منها، بمهمة مرسومة، هي مهمة كل الرسل والأنبياء، وببرنامج محدد المعالم، كفيل بإنقاذها وهدايتها، والانتقال الآمن بها، من الضلال إلى الهدى، ومن الأمية الى نور العلم، وذلك من خلال مسارات ثلاثة، تضمنها البرنامج الرسالي، وهي:

- آيات الكتاب المقروءة المسطورة، وآيات الأنفس والآفاق المنثورة المنظورة، وما تزرعه من إيمان بالله، يستتبع عقائد الدين وأركانه؛
- تزكية النفوس بإخلاص العبادة، وأخلاق التقوى، وإقامة العدل والإحسان، والبذل والعطاء إيثارا، والاستعداد للقاء الله؛
- إشاعة المعرفة، وتوطين أدواتها في المجتمع؛ كتابة، وقراءة، وحكمة، وفكرا، وتقديرا وتدبيرا وفتوحا علمية؛

على تلك المسارات قامت أسس مجتمع الإيمان والعدل والإحسان، الذي شيده المسلمون، الأوائل، بصبرهم وإيمانهم وجهادهم، وبخروجهم من ديارهم وأموالهم، طاعة لله، وطبقا للبرنامج الرسالي لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم؛ والذي تولت عصمة الله تعالى حمايته من الناس، ومن الوقوع في السيئات والخطيئات، وتولى وحي السماء وسمة الشورى تسديده عن الخطأ، ومن حوله من نالوا شرف الانتماء إلى ذلك الجيل الفريد في التاريخ، جيل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم، فكان خير جيل عرفته البشرية، أقام لله ملة ودولة، لكنه كان خاضعا لسنة الله...... يتبع

28. يوليو 2017 - 1:19

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا