أخيراً سقط قناع «العملية الديمقراطية» الموريتانية التي جاء بها تغيير الثالث من أغسطس 2005 في موريتانيا حيث أزيح الرئيس (ولد الطايع حينها) رمز النظام وبقي جسد نظامه مهيمنا على البلاد. فلم يصدق الكثيرون من المراقبين أن الجيش سلم السلطة بكل طواعية لرئيس منتخب وهو ما حدث في الشكل
ولكنه في المضمون بقي مهيمنا على كل شيء في البلاد يصنع القرار الأمني وأجزاء كبيرة من القرار السياسي، والباقي بيد الرئيس الذي رفع شعارا كبيرا دالا في العمق على المقصود السلطوي إنه شعار: «الرئيس المؤتمن» الذي رفعه الرئيس الحالي سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله أو رفعه على الأصح وكلاء العسكر المشرفون على حملته الانتخابية 2007 في منافسة مثيرة بين التسعة عشر مرشحا على الكرسي الأثير الذي يبدو أن «أبناء خزيمة» العسكريون تواقون للتحكم فيمن سيجلس عليه.
فلم يكن أحد من المراقبين السياسيين يتصور أن «صراعا ناعما» تطبعه الحرارة والسخونة سيندلع بهذه السرعة بين «الرئيس المؤتمن» ومن ائتمنه، وتحديدا النواة الصلبة في المجلس العسكري السابق، العقيدان: محمد ولد عبدالعزيز (قائد الأركان الخاصة للرئيس) ومحمد ولد الغزواني (قائد أركان الجيش الموريتاني) الذين تم ترفيع كل منهما إلى رتبة جنرال دون سواهما من العسكريين في عملية أثارت لغطا في شرعية الإجراء الذي كان «انتقائيا» وابتعد عن «المعايير الفنية في المؤسسة العسكرية» التي لم تعرف رتبة «جنرال» من قبل لأسباب فنية بحتة لا علاقة لها بالسياسية فيما جاءت هذه الترقية مشبعة بالمعاني السياسية في الوسط السياسي الموريتاني الميال إلى التفاسير السياسية حتى وإن كان الموضوع لا علاقة له بالسياسة.
غير أن المفاجأة الكبيرة هي سرعة تقلب المزاج السياسي العام في القصر الرمادي بعد تعيين رئيس الجمهورية «المنتخب في الشكل» و «المدعوم في الجوهر» من رَجليْ المجلس العسكري القويين، لحكومة جديدة شهدت مشاركة جزئية ومحدودة للتيارين «اليساري» و «الإسلامي» رافقها حسب ما تؤكده مصادر متعددة مساع ونيات من طرف الرئيس لإعادة النظر في المؤسسة الأمنية والعسكرية وكانت تلك هي القطرة التي أفاضت الكأس حيث حرك العسكر ونواب الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ لإسقاط الحكومة وإشعار الرئيس بأن المؤسسة الأمنية والعسكرية خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه وأن فترة إطلاق يده في إدارة القرار السياسي والاقتصادي انتهت وينبغي أن يخضع لمعايير «الشراكة السياسية المضبوطة» بين الطرفين.
المطلوب: تحويل الرئيس إلى دمية
كان من المفترض أن يكون عقد الوكالة السياسية بين العسكر ورئيسهم واضح المعالم مما سيجنبهم حتما الوقوع في مثل هذا الصدام الحرج الذي تتابعت حلقاته كسلك انقطع نظامه بشكل فاضح للطرفين اللذين اتضح أن كلا منهما وقّع على ورقة طلاق بائن من الثاني. العقد المسكوت عن تفاصيله، والذي اندس شيطان السياسة في تفاصيله، هيأ المجال لصراع بين الطرفين هدفه «الانفراد بالمجد» -على لغة ابن خلدون- وبسطة بما يتضمنه ذلك من حتمية اتجاه الطرفين عاجلا أو آجلا إلى استغناء أحدهما عن خدمات الآخر، «شطبا» و «إلغاء» من الوجود في السلطة. وبات من شبه المؤكد أن ثمة مساعي سياسية من طرف الجنرالين لإعادة صياغة المشهد السياسي وربما ترسيم الدور السياسي للجيش من خلال الدستور. وتشير الخطة المتدحرجة التي اعتمدها العسكر والنواب والشيوخ التابعون لهم إلى نية في إخضاع مؤسسة الرئاسة ذات الصلاحيات الواسعة في النظام السياسي الموريتاني الذي يهيمن عليه الرئيس من حيث الصلاحيات القانونية والدستورية أو العمل على دفع الرئيس إلى الاستقالة عبر الضغوط المحرجة التي اتجهت لاتهام هيئة تديرها زوجته بالفساد وهو أمر يمكن أن يتطور في مراحل لاحقة من الصراع إلى اتهام الرئيس نفسه مما سيدفعه- وهو الموصوف من قبل مناصريه بعدم الرغبة الجامحة في السلطة- إلى الاستقالة أو القبول بدور «الرئيس الدمية» الذي يتمتع بمزايا السلطة المعنوية وحتى المادية في حدود، لحين إكمال المشهد التمثيلي في اللعبة الديمقراطية.
خريطة المشهد السياسي الجديد
انقسمت الخريطة السياسية بفعل الخلاف الحاد في هرم السلطة إلى فسطاطين كبيرين أحدهما القوة التي اصطفت إلى جانب ما أسمته الشرعية الدستورية التي يرمز إليها الرئيس المنتخب الذي يستند لأسس الشرعية السياسية ذات الطابع الانتخابي بينما شهدت غرفتا البرلمان «الجمعية الوطنية» و «مجلس الشيوخ» ثورة سياسية غير مسبوقة في التاريخ الموريتاني على مؤسسة الرئاسة التي توصف في التعبيرات القانونية لأساتذة القانون الدستوري بجامعة نواكشوط بأنها مهيمنة على النظام السياسي بوصفها ضامنة للانسجام والتوازن في بلد متعدد الأعراق محتاج للسلطة القابضة الضامنة للسير المطرد للمؤسسات وسنبرز بشكل مختصر تموقع الخريطة الجديد:
1 - صف رئيس الجمهورية: وقف إلى جانب الرئيس المنتخب القسم الأهم من قوى اليسار الذي يقوده حزب اتحاد قوى التقدم إضافة إلى أجزاء من حزب «عادل» يمثلها رئيس الحزب الذي هو الوزير الأول يحيى ولد الوقف إضافة إلى التيار السياسي للزنوج الموريتانيين الذي يقوده إبراهيما مختار صار, وحزب «تواصل» الذي يمثل الحركة الإسلامية في موريتانيا وزعيم حزب التحالف رئيس الجمعية الوطنية السيد مسعود ولد بالخير في الوقت تؤكد العديد من المؤشرات أن حلفاءه الناصريين أقرب للعسكر، كما يحظى الرئيس بتأيد جناح رجال الأعمال أو أقرباء ولد الطايع من مناطق الشمال كذا الطريقة التيجانية التي ينتمي إليها الرئيس والتي حول إطارها الجامع: «التجمع الثقافي الإسلامي» إلى مؤسسة ذات نفع عمومي وكل هذه الأطراف تفتقر لوجود فعلي في البرلمان.
2 - صف العسكر: يعتمد العسكر على قوة كبيرة في البرلمان الموريتاني تصل حد الأغلبية بدعم النواب الموالين لزعيم المعارضة الموريتانية السيد أحمد ولد داداه إضافة إلى الحركات القومية الناصرية والبعثية وجناح ضعيف من قوى اليسار تعبر عنه حركة «التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية» وربما أيضا يتلقون دعما من رئيس المجلس العسكري السابق وقبيلته النافذة وطبقة كبيرة من التجار هي المؤثرة كما أن الدعاية التي اعتمدوا عليها تبدو مقنعة وقوية وأكثر قابلية للنجاح بينما يبدو الخصم الرئاسي عاجزا عن تقديم خطاب مقنع ومحاصر بأداء سيئ في الجوانب التي تمس حياة المواطن الأساسية.
سيناريوهات مستقبلية:
• يرجح العديد من المراقبين أن تهدأ عاصفة الأزمة خلال الأشهر الخمسة القادمة لأن الرئيس من خلال استقالة الحكومة قد «انحنى أمام العاصفة» بعد «الخطاب العنتري» القوي الذي ألقاه (2/7/2008) بعد عودته من قمة شرم الشيخ.
• بات من شبه المؤكد أن الطرفين لن يطيلا التعايش وأن احتمال انتخابات مبكرة أصبح من الوارد خصوصا إذا تعززت فرضية مساعي تغيير دستوري وتحويل النظام من نظام رئاسي إلى نظام برلماني.
• لا يستبعد الكثيرون أن يحاول ولد الشيخ عبدالله، مدفوعا بقوة اقتراحيه من حلفائه الجدد، المجازفة بإقالة العسكر وحل البرلمان وهي إجراءات ربما تدخل البلاد في أزمة سياسية كبيرة لن تجد حلولا سريعة كما ستقضي على صورة التحول الديمقراطي وتعمق الصراع السياسي في أوضاع متأزمة.
• قد لا يكون من المستبعد دفع الرئيس إلى الاستقالة من طرف العسكر ومن القرائن المرجحة في هذا السياق فتحهم ملف الفساد ومساعيهم الحالية لإسقاط رئيس المجلس الموالي للرئيس.
* كاتب موريتاني