يدخل هذا الحديث المقتضب في إطار النقد البناء والنقاش الداخلي ، فقد استرعى انتباهي حديث رئيس الجمهورية في مهرجان روصو حيث كنت ضمن المحتشدين واستمعت إلى ما بشر به من دمج للمجلسين الموقرين الاقتصادي والاجتماعي، وإضافة مجلس أعلى للبيئة إليهما، ولكن البشارة سرعان ما امتزجت بغصة، حين قال فخامته إن الهدف من الدمج هو تقليص الميزانية الخاصة بالمجلسين و ترشيد "مواردنا " ،
وهي إشارة ضمنية إلى أن المجلس لايزال في نظر السلطة مجلسا للاسترخاء وفقاعة بيروقراطية لتصريف فــائض الولاءات، وبالتالي لا دور لها في عملية التطور والبناء.
هذا أمر غير سار.. خصوصا في هذه الفترة التي أتاحت لنا فيها فرصة التخلص من مجلس الشيوخ الظروف والأجواء المواتية لتصحيح هذا الوضع، ورسم آليات وقائية من التعفن البيروقراطي بشكل عام.
والواقع أن فكرة المجلس الثلاثي : الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ليست فكرة عمياء ولا وليدة الصدف أو التخبط ، فهي نتاج رؤية لها صلتها الواضحة بالتنمية المستديمة ، بأبعادها التقليدية الثلاثة، ولكنها مع ذلك أسقطت أو تجاهلت عامل الحكامة ، وهو ما يعني أن المرجعية هنا ربما تكون أكثر ارتباطا بالمفهوم التقليدي للتنمية المستدامة ، المفهوم الذي تحدده رؤية تقرير ابرونتلاند ،Bruntland Report والذي لا يلقي بالا لعامل الحكم الرشيد ، وهي رؤية أصبح ينظر إليها كنوع من الرومانسية المتجاوزة.
سيكون لافتا، وأكثر تماشيا مع مستجدات التنمية المستدامة أن يضاف إلى هذا المجلس شيء من قبيل : رقابة الحكامة ، أو الحكم الرشيد مثلا ، ستكون مهمته توجيه ومراقبة السياسات المرتبطة بالشفافية والمحاسبة وعدم الإضرار، وهي القضايا الثلاث الأكثر أولوية في حسابات الحكم الرشيد بالنسبة للتنمية المستدامة.
ستكتشف الدولة في المستقبل أن هذه المبادئ الثلاثة المرتبطة بالحكم الرشيد ستكون ذات نفع عظيم في التعامل مع نوازل واستشكالات التنمية بالنسبة للمجالس الجهوية القادمة ، وربما توفر آليات ناجعة لتشخيص وضبط المصلحة العامة ، وفضلا عن مبدأ الشفافية والمحاسبة، فإن مبدأ عدم الإضرار هو مبدأ عظيم تتجاوز أحيانا قوته قوة القوانين المتبعة، فقد يسمح القانون بشيء، فيشخص مجلس الحكم الرشيد ما فيه من ضرر فيرسل توجيهه إلى الحكومة بضرورة إيقافه.
سيكون سارا، في نظري، لو عكف المجلس القادم على مراجعة قوالب المؤسسات العامة بما فيها الوزارات ذاتها، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالهيكلة ، فهذا هو لب المشكلة فيما يتعلق بالتراخي والكسل والفراغ في إدارات القطاع العمومي، فهناك تداخل في المهام، وهناك إدارات هي نسخ طبق الأصل من إدارات أخرى، وهناك غياب تام لإدارات تطوير الخبرات وتحسين القدرات ، وهناك انعدام كلي لمصالح جمع المعطيات ، حتى إن هذه المهمة أصبحت موكولة لموظفي البعثات الدولية . وهذه أيضا مشكلة أخرى.
سيكون من العملي أن يتم تأهيل المجلس القادم بآليات جمع المعطيات فهذه واحدة من أهم الأوليات، و بالكادر المتمكن من التعاطي مع ترتيبات خطة النمو المتسارع والرفاه المشترك المعتمدة لدى وزارة الاقتصاد و المالية، وتقديم التوجيهات الداعمة لها وإرشاد المجالس الجهوية القادمة ، والتي سيكون أغلبها حائرا، ودفعهم للتحرك في مظلتها.
وأكثر من ذلك سيكون هذا المجلس بوضعه السامي، وبما نرجو له من قدرات، ،قادرا على ضبط ورسم الحدود بين المؤسسات التي تتنازع أولوية تنفيذ هذه الاستراتيجيات ، وتخفيف الحساسيات الإدارية المرتبطة بتنازع الصلاحيات .
والواقع أنه بعد تحديد أهداف التنميةSDGs أو ما يعرف محليا ب ODD والتظاهرات الدولية الضخمة المرتقبة في المستقبل على مستوى العالم حول هذه الأهداف، ومستويات التقدم في تنفيذها ،،فإن مجلسا بهذه التسمية سيكون محط نظر كل أحد، وأولهم الأطراف المهتمة بالموضوع على المستوى الدولي فهذه هي قضية العالم الأولى من هنا وإلى سنة 2030
ما قيمة المجلس القادم إذا لم تكن له رؤية حول واقع الفقر، والأمن الغذائي، و تقليص فوارق الدخل، وتكافؤ الفرص، وتعزيز وضع المرأة وأقلمة قوانين النوع؟؟
ما قيمة مجلس أعلى بهذا الاسم وهذه الحمولة إذا لم يسمع له صوت ولا حتى خشخشة في قضايا هامة ومصيرية من هذا النوع ؟
إن مجلسا أعلى بهذا الحجم وهذه التسمية لا يمكن أن يكون ذا مردودية ونفع، ومصدر فخر، ومرجعية، إلا إذا كان وجوده ثمرة تفكير وحسابات جادة وحقيقية، وهو ما يعني أن ميزانيته يجب أن تزداد وتعزز ، لا أن تتقلص، ولكن في مقابل عمل وتواجد فعلي في عملية النهوض بالوطن.
إلا إذا كان المراد هنا، هو الترخيص لمجلس استرخاء جديد يقضي فيه بعض المحالين على المعاش بعض الوقت للدردشة بعيدا عن صخب المنزل ..فذلك أمر آخر، وبالفعل في هذه الحالة يجب أن تتقلص ميزانيته بأقصى ما هو ممكن./