بدأت العلاقات الموريتانية الإسرائيلية بصورة متسارعة منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث بدأت الاتصالات بين البلدين عبر وسيط مغاربي، على الأرجح، بدوافع من أهمها أن نظام ولد الطايع الذي أرسى هذه العلاقات وجد نفسه محاصرا مطلع التسعينيات بمواقفه تجاه احتلال العراق للكويت
وتداعيات حرب الخليج الثانية من جهة، إضافة إلى ضغوط ملف انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت ضد الأقلية الزنجية ما بين 1987و 1991 إضافة إلى تعثر المشروع الديمقراطي على المستوى الداخلي والفشل في بناء شرعية سياسية مقنعة.
وقد أعلن النظام رسميا عن إقامة مكتب إسرائيلي لتمثيل المصالح الاقتصادية 1995 ليشفع بالعديد من الزيارات المعلنة من طرف وزير الخارجية الموريتاني للقدس وتل أبيب ويعلن في النهاية، عن رفع مستوى هذه العلاقات إلى تبادل السفراء بتاريخ 28-10-1999م وهو الحدث الذي أذهل جل المراقبين ولم يعرف مغزاه الحقيقي، حيث تعتبر موريتانيا بعيدة عن تخوم الصراع العربي الإسرائيلي.
لتنخرط التيارات الإسلامية والقومية في مقاومة ما اعتبرته «اختراقا صهيونيا» خطيرا على الأمن القومي الموريتاني. غير أن ما سنرصده هنا لا يتعلق فقط بالجانب التاريخي للتطورات التي عرفها هذا الملف، وإنما نحاول استجلاء مجموعة من التحولات الجديدة الظاهرة والخفية المتناثرة هنا وهناك. وأهميتها تكمن في أنها جزء من التحولات الجديدة التي تعرفها السياسة الموريتانية. ومن أهم المتغيرات الجديدة التي صاحبت استلام ولد الشيخ عبد الله للسلطة اختفاء السفير الصهيوني في نواكشوط «بوعز بوسميث» من الظهور في أغلب الأنشطة والاحتفالات الرسمية التي تنظمها مختلف القطاعات الوزارية بعد ما كان حاضرا بقوة خلال فترة حكم الأنظمة السابقة وما فتئت المعارضة والقوى المناهضة للتطبيع تتخذ من هذا الحضور مجالا لنقد استمرار هذه العلاقات.
ومن أهم المتغيرات الجديدة في ملف العلاقات الموريتانية الإسرائيلية وجود روح نقدية جديدة في خطاب السلطات الموريتانية تجاه إسرائيل، حيث سجلت مواقف جديدة للسلطة من هذه العلاقات أهمها البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية الموريتانية والتي تعلن التضامن مع «آلام الشعب الفلسطيني وتناقش الموقف العدواني للإسرائيليين» وتنبه إلى أن إجراءات العدوان والحصار وسفك الدم لن تكون في خدمة السلام وهو منطق يختلف عن منطق الصمت والتعتيم الذي ساد خلال نظام ولد الطايع وكذا حكم المجلس العسكري الذي تخللته الحرب على لبنان يونيو 2006 حيث كان الحديث عن التمسك بالعلاقات يخرج عبر تعليقات الوكالة الموريتانية للأنباء مبديا التشبث بتلك العلاقات «مهما تطورت الأمور إلى حد الدمار والخراب» وهي العبارة اللازمة في تلك البيانات التي تكررت خلال سنوات الانتفاضة الدامية مطلع القرن الجديد.
أما التطور الأهم فهو أن الرئيس ولد الشيخ عبد الله وعد بمراجعة هذه العلاقات من خلال عرضها على البرلمان، وبغض النظر عن حجم المناورة السياسية في هذا الموقف إلا أن أطرافا نافذة في الأغلبية الداعمة ما فتئت تعبر عن رفضها لاستمرار هذه العلاقات. ولعل آخر ذلك الجدل الذي أثير مؤخرا حول تصريحات ولد الواقف الأخيرة لصحيفة «الراية القطرية» غير أن ذلك الجدل يختصر تزحزح الأغلبية وتململها من استمرار هذه العلاقات، وهو موقف جديد مع ملاحظة أن الأغلبية ذاتها صوتت في البرلمان على المخصصات المالية للسفارة في تل أبيب، والتشبث بالجزء هو في النهاية لا يمكن إلا أن يفهم على أنه تشبث بالكل غير أن موقف الأغلبية، ذلك لا يمكن إلا أن يفهم في جزء كبير منه في إطار المماحكة مع المعارضة إن لم نذهب بعيدا مع من حاول أن يقرأ فيها رسالة من النظام إلى المعارضة مفادها: «لا تحرجوا البلاد بالدفع بالنظر السريع في هذه العلاقات إلى البرلمان فهو بتصويته على تمويل السفارة قادر بكل وقاحته الموروثة المتأصلة في «أغلبيته الرئاسية» أن يصوت على تشبثه باستمرار هذه العلاقات» وهو ما سيزيد إحراج موريتانيا خارجيا في العالم العربي والإسلامي كما سيزيد من اشتعال النقمة الشعبية ضد السلطة في ظل الظروف الحالية التي تشهد ضعفا مطردا في اسقرار البلاد، وهو ضعف تذكيه أزمات الغلاء المعيشي والصراع الفئوي والعرقي المتنامي.
كما أنه بات من شبه المؤكد أن العديد من المؤشرات تؤكد على أن الأجيال الجديدة في المؤسسة الأمنية والعسكرية الموريتانية غير راضية عن استمرار هذه العلاقات في الوقت الذي تتعزز فيه العلاقات مع الولايات المتحدة خصوصا في المجال العسكري بفعل سياسات وقناعات القيادة الحالية في المؤسسة العسكرية والأمنية، وقد تتجه السلطة الحالية للتخلص من ضغوط هذه العلاقات بموافقة أميركية مقابل تعاون نوعي أمني وعسكري مع الولايات المتحدة، وهو ربما يحقق أهداف العلاقات الموريتانية الإسرائيلية وهو ما يمكن أن توافق عليه إسرائيل، أيضا، التي فشلت في تحقيق اختراقات ذات قيمة على مستوى النخبة والمجتمع الموريتاني منذ تم رفع هذه العلاقات إلى مستوى السفراء (بتاريخ 28-10-1999) كما أن هذه السنة سجلت انتقاد أطراف في المؤسسة الأمنية الموريتانية لأدوار السفارة الإسرائيلية في اللعب على الوتر العرقي الحساس حيث صرح مصدر أمني رفيع لإحدى أهم الصحف في الخليج العربي بأن السفارة الإسرائيلية تقوم بدور خطير في هذا السياق.
ربما تتفهم الأطراف الصهيونية والإسرائيلية بعد العمليات التي استهدفت السفارة الإسرائيلية في نواكشوط أن النظام الموريتاني أصبح مهددا من الناحية الاستراتيجية بالهجمات الإرهابية وبناء على التقييم المحتمل بانعدام فاعلية هذه العلاقات من طرف الخارجية الإسرائيلية وبناء على أن الفلسفة اليهودية تعتمد الربحية والبراغماتية في السلوك السياسي فمن المحتمل أن تكون توصلت لقناعة بإنهاء هذه العلاقات لكن دون أن يكون لذلك وقع على الطرف الثاني الذي يجب أن تستمر أواصر الصداقة والتعاون معه والمفترض أن يكون الطرفان الآن قد توصلا لنفس القناعات وكل منهما يريد أن يحدث تحولا مقنعا يتفادى أي خسارة تلحق بالثاني وترجح هذا الاحتمال بعض القرائن:
- تصريحات المسؤولين الموريتانيين بدءا بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله وانتهاء برئيس الحزب الحاكم الوزير الأمين العام للرئاسة السيد يحيى ولد أحمد الواقف والذي حاول سحب التصريح للتخفيف من وقعه السياسي والإعلامي على «الأصدقاء الإسرائيليين» إذ يبقى من المحتمل أن هذا التصريح إنما جاء في سياق قناعة السلطة بالدفع باتجاه إنهاء هذه العلاقات من جهة وقبل ذلك محاولة استفادة حزب السلطة «المهزوز» في مصداقيته وشعبيته من الخطاب (الديماغوغي والدعائي في هذه العلاقات) بالمنظور السياسي غير الديني أو العقائدي.
-كما لا يخفى التحرك المفاجئ لاتحاد قوى التقدم (الحزب الشيوعي) والذي سلك اتجاها جديدا من خلال دعوته لمحاصرة السفارة الإسرائيلية وهو المعروف بصمته شبه الدائم في كل المراحل التي عرفها مسار التطبيع الحالك حيث لا يستبعد أن يكون حزب اليسار العريق في السياسة الموريتانية والذي يتفهم بذهنيته البراغماتية هذه العلاقات قد توصل إلى معلومات أو قناعة بأن هذه العلاقات مقبلة على تطورات باتجاه النهاية الفعلية مما حمله على الاستثمار الدعائي على هذا النحو الذي سار فيه ولد الواقف بسرعة لم تتمهل السياقات بما فيه الكفاية وهو ما اضطره لرفع الحرج من خلال نفي ما صرح به لاحقا لأنه ربما لم يحسب حسابا كافيا لمقادير المسموح والممنوع في ضوء السياقات الأخيرة في هذا الموضوع.
- ولا يمكن في هذا السياق إلا أن نقف عند بعض الأنباء الصادرة من الصحافة الإسرائيلية التي تحدثت عن تعيين سفير جديد لإسرائيل في نواكشوط متسائلين عن إمكانية أن تكون نواكشوط ترفض استقبال سفير إسرائيلي جديد سعيا لتجميد العلاقات بصورة فعلية دون الإعلان الرسمي عن إنهاء هذه العلاقات تفاديا للضجة والآثار السياسية والإعلامية المترتبة عليها والتي من المؤكد أنها من حيث «التقييم السياسي المحض» ستكون كبيرة ومؤثرة على الطرفين:
- موريتانيا في الدائرة الغربية والأوروبية حيث تنشط اللوبيات الصهيونية المؤثرة في صنع القرار الأوروبي المتعلق بموريتانيا.
- وإسرائيل ربما تخسر في الدائرة العربية والإسلامية إذ إن تراجع هذه العلاقات سيشكل انتكاسة قوية لمشروع التطبيع الإسرائيلي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.
5- شرعية القوى الرافضة للتطبيع: ومن المتغيرات الجوهرية أيضا أن مقاومة التطبيع هي جزء من أجندة أحزاب سياسية ومنظمات معترف بها في ظل نظام ديمقراطي، حيث لم تعد مقاومة التطبيع والمطالبة بقطع هذه العلاقات مطالب وخطابات للقوى «المتطرفة» فقط، كما كانت تدعوه الأجهزة السياسية والدعائية للنظام السابق وهذا مكسب وإن كان هامشيا داخليا إلا أنه مهم ومقنع خارجيا وهو إن أحسن استغلاله ربما يكون من أهم المبررات في خطاب السلطة الرافض للتطبيع، إذ إنه من الطبيعي أن ينحاز النظام لخيارات نخبه وشعبه.
من المؤكد أن ملف العلاقات الموريتانية الإسرائيلية مقبل خلال الفترة القادمة على تطورات وتحولات جديدة لكن هل سيؤدي الحراك الحالي لإنهاء هذه العلاقات أو تجميدها أو تقليصها مع بقاء صداقة وتعاون غير معلن مع إسرائيل وأميركا. ذلك ما يبدو راجحا حصوله على المدى المتوسط والبعيد لا القريب.