لقد حمل التيار الإسلامي في موريتانيا على عاتقه ـ منذ أن تمخضت به رحم
الأيام ـ مسؤولية الإصلاح السياسي والاجتماعي, ومقارعة الظلم والطغيان, والوقوف بكل صلابة وحزم أمام جحافل الاستبداد والاستنزاف, متخذا من ذلك ثابتا غير قابل
للتغيير، ومبدأ لا مساومة فيه ولا تفاوض عليه.
وكانت الأنظمة العسكرية المتعاقبة على سدة الحكم في هذا البلد بالمرصاد لكل الشخصيات والهياكل ذات الطابع الفكري الإسلامي، منعا ومصادرة وحبسا وتشويها, مستهدفة إيصاد الباب وقطع الطريق على التجربة الإسلامية, باعتبارها أخطر المخاطر التي تهدد السياسات الاستعمارية والاستلابية.
بيد أن الإسلاميين الذين اختطوا منهجهم واستبانوا طريقهم كما استبانوا
أهدافهم من سلوكه, لم يولوا أي اهتمام ولا أي اكتراث بتلك الإجراءات
والتدابير القمعية التعسفية, ولم يزدادوا بصنوف الظلم وألوان التسلط
والعدوان إلا استمرارا على درب المقاومة السلمية والممانعة الحازمة
الحاسمة, مستمرئين الأذى، ومستحلين البطش والتنكيل في سبيل نصرة الحق وقشع
دياجي الغطرسة والفساد, غير آبهين بالتكاليف المترتبة على ذلك، ولا مبالين
بالثمن الباهظ الذي يدفعه القائمون بالقسط الشهداء لله.
فقامت بنصر الله أنصار دينه ... وبيعت إلى الله النفوس النفائس
وبعد أن أخفقت شتى المؤامرات والخطط المحاكة في تحقيق أي مرام, اتبع هذا
النظام طريقتين جديدتين في مساع فاشلة للي الذراع المقاوم، وإخضاع الهامات
الشامخة التي لا تحنيها قسوة الأيام، ولا يطأطئها هبوب العواصف.
وإحدى هاتين الطريقتين هي الخنق المادي والحصار الاقتصادي الذي تم فرضه
على حاملي رايات الفكر الإسلامي ورافعي أعلامه الخفاقة، عبر العزل الوظيفي
وسد منافذ التعيين والترقية أمام من حالفهم الحظ في تخطي عتبة الوظيفة
العمومية, وبفرض الضرائب والمكوس على تجارهم ورجال أعمالهم بمبالغ تشيب
النواصي وتفني الثروات القارونية.
وثانيتهما وهي الأفشل والأخسر : ألا وهي السعي إلى إحداث شرخ وشقاق في
الصف الإسلامي المرصوص، ببذل جهود مضنية ومساع حثيثة تعتمد استخدام
ثنائية العصا والجزرة, كي يوهم النظام سذج القراء والمراقبين أن الحكام
الجدد أفلحوا في تحقيق ما لم تستطعه الأنظمة السابقة من محو الفكرة
الإسلامية واحتواء
أصحابها, إذ تراهم يطبلون ويزغردون ابتهاجا وانتشاء ببعض الانسحابات
الدرامية العبثية التي برمج معظمها قبل لعبة انضمام منفذيها, ولربما قبل
نشأة الحزب بسنين, ويقيمون الحفلات الفاخرة، ويعدون التقارير الإعلامية
المفخخة بتضخيم استقالة شخصيات ومجموعات وهمية، لم تنتظم يوما مع الحزب
في عقد، ولم تكن معه على شاكلة، وأقصى ما في الأمر هي تلك الانسحابات
التجارية التي يعلنها سياسيون حالفوا الحزب في مرحلة انتخابية انصرمت،
وصرمت معها بالطبع تلك التحالفات المؤقتة.
ومعلوم أن ديمقراطية الحزب وفتح بابه على مصراعيه أمام كل الموريتانيين
جعل مختلف الطبقات والمستويات منصهرة فيه ومتلاقية في ساحاته وأروقته، مع
تباين درجاتها في الانتماء الحزبي، واختلاف قدراتها على تحمل الضغوط
ومواجهة المصاعب.
ويمكن تقسيم منتسبي الحزب إلى أقسام أربعة:
أحدها: تلك الأجسام الأجنبية والخلايا الغريبة التي تدسها الجهات الأمنية
داخله، قصد إحداث البلابل والفتن في صفوف الصادقين المخلصين, والإيضاع
خلالهم بنصب الكمائن وزرع الألغام, وماهم بضارين به من أحد إلا أنفسهم,
لأن التماسك الذي يشهده الحزب, وارتفاع الحس والوعي الأمنيين لدى أعضائه
عرى تلك الخفافيش المتشكلة في كل صورة والمتلونة في كل مظهر، كما تلون في
أثوابها الغول.
وثانيها: أولئك المسكونون بحب الترف المادي والثراء المالي، الذين اتخذوا
الترحل السياسي بين الوجهات المتناقضة جسرا إلى أحلام وردية وآمال سرابية،
ليست لها السياسة طريقا ولا سبيلا, ولم يكن حزب تواصل محطة إقلاعهم
الأولى، ولن يكون غيره محطة هبوطهم الأخيرة، لأنهم في دوران مكوكي دؤوب
في فلك المطامع الذاتية، والمآرب الشخصية, وكلما لاح لهم نحوها برق خلب
أو فجر كاذب, طاروا إليه زرافات ووحدانا، ولم يقصدوا بانتسابهم إلى الحزب
أصلا سوى المقايضة بخروجهم منه، استدرارا لأخلاف السلطة الحافلة بألبان
الوعود الزائفة والعهود العرقوبية.
ولا يفوتني في هذه الأسطر أن أسوق قصة حدثت معي شخصيا، كدليل على وهمية
الانسحابات التي تزعم وسائل إعلام النظام أنها تشكل قضاء مبرما وقدرا
محتوما، سيذبل أغصان الدوحة التواصلية الباسقة، ذات الأصل الثابت، والفرع
السامق في السماء.
لقد استدعيت من طرف بعض عملاء جهاز المخابرات، بعد إخفاقي في اجتياز
مسابقة وظيفية أجريت قبل عامين، في محاولة يائسة لاستغلال الوضعية
النفسية لطالب ضرير فقير، ولته الحظوظ قفاها، وكشرت له الليالي حينها عن
أنياب مصقولة غير مفلولة , فبادرني ذلك الشخص دون تمهيد أو تقديم، قائلا:
ألم أعدك هذه النتيجة قبل أيام؟ فقلت نعم. قال: هل ترغب في تدارك الأمر
وتفادي هذه الخسارة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: نشكل مجموعة كبيرة على رأسها
أنا وأنت، وترتب لنا الجهات الرسمية لقاء إعلاميا، نعلن فيه انشقاقنا عن
حزب تواصل!
لكن الله تعالى وفق عبده الضرير إلى إيقاف هذه المسرحية السيئة الإخراج،
الرديئة المضمون، بمقاطعة الرجل وتذكيره أن الرزق والأجل قد كتبا قبل خلق
السماوات والأرض بخمسين ألف عام, وأنه "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا
ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده".
وثالث هذه الأقسام: قوم أولوا نيات صادقة وعقول راجحة وغيرة على أوطانهم
وحرص على تخليصها من براثن الأحكام الدكتاتورية الشمولية, مع لين في
العزم, وضعف في الاقتناع الحزبي والنضج الفكري.
ولن تكون هذه الأقسام الثلاثة ميزانا أو مقاسا لمدى الانسجام أو الانقسام
في أي حزب أو تجمع ينضمون إليه أو يخرجون منه.
ورابعها: وهو السواد الأعظم والجمهرة الساحقة والقاعدة الصلبة في منتسبي
حزبنا حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، وهم الذين علموا أن
السياسة ركن ركين من ديننا الحنيف، عنها يسأل المرء، وعليها يحاسب، فاختاروا
قولها صريحة مدوية: لا للسياسات الكاذبة الخاطئة، لا للمناهج الجائرة
المستضعفة لعباد الله بهدر أموالهم وسلب حقوقهم, رافعين العقيرة جهارا
في وجه السادية العابثة بالأوطان نهبا للمقدرات والثروات وإقصاء للنخب
والكفاءات، دون جبن ولا خنوع، يلهج حالهم:
أنى أذل لمخلوق على طمع ... هلا سألت الذي أعطاه يعطيني
فقطعة من غليظ الخبز تشبعني ... وقطرة من نمير الماء تسقيني
ورقعة من غليظ الصوف تسترني ... حيا وإن مت تكفيني لتكفيني
منضوين تحت تلك النخلة الوارفة الظلال، خلف قيادة عرفوا جدها وإخلاصها، في
صحبة خبروا استقامتها وطهرها، على منهج لم يخامرهم شك في سلامته وصحته،
ولا في نبل الأهداف والمرامي التي يفضي إليها, فعضوا عليه بالنواجذ,
مستمسكين
بعروته الوثقى, وقابضين عليه جمرا بين أيديهم, في ترجمة عملية للشعار
النبوي الكريم: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن
أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.
أيا حزبا لنا عنوان فخر ... يزلزل بالهدى ركن الضلال
أيا حزبا لنا غيث مغيث ... بوابله القضاء على الوبال
ألا لا زلت ينبوع العطايا ... تفجر بانهمار وانهمال