طبقا للمثل القائل أن "الرأي يوجد عند خادمة" لا أعتبر أنني ملزم بالإجابة علي سؤال قد يراه البعض واردا وموضوعيا في واقع لا يؤخذ بالرأي فيه لذاته، لكنني تفاديا لأن أنعت بانتحال الصفة، وأن لا أوقع غيري في شراك المغالطة، ولوجود مثل شعبي آخر يقول"اللي أتريالك خرص ركبت أمرح" ، سأجيب بطريقتي علي السؤال الموجز من هذا؟ـ لست علما من أعلام الشاشة صغيرة كانت أو كبيرة، ولا حتى نكرة دفعت الطيبوبة يوما أحد العاملين
بإذاعة ما استضافتي لملأ فراغ زمني بين فقرتين، ولا أنا معارض من صنف القادة ولا الأتباع، قد يكون من جملة الأسباب كوني أدركت مبكرا أن المعارضين في زماني لن يلبس أي منهم بزة كسرى ولن يضع بمعصميه أساوره، ومن يرم غير ذلك، قد يوصف إما بالخداع والمراوغة أو بالغباء والسذاجة، إنني حسب تعبير أحدهم لست بناطح ولا أنا بناصح، لكنني في أقصي حالات القرف والاستياء لسبب ما، لن ألجأ للحياد لكوني لحد الآن لم أستوعب الأخذ به كموقف في السياسة، في الحرب نعم.
قبل أسابيع قليلة سبقت كتابة هذه الزفرة، وصفني ممازحا أحد أكبر سياسي هذا البلد ومثقفيه، بأني أحد حواريي الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولأن الرجل يعرفني جيدا، ومن النوع الذي لا يقول ما يضمر عكسه ولا يتفوه بلفظ خارج السياق، فأنا بلغة الحواريين في الأغلبية، وبلغة المناوئين من الموالاة، أي حواري أنا؟ عاثر الحظ في السياسة والوظيفة معا، لا أتذكر أنني قصرت في أداء عمل أو أخفقت في مهمة، لكن المحصلة إحكام طرف القيد بالمعصم الثاني حيث الطرف الأول، لست راض على الإطلاق ولم أقتنع بعد أنني من فئة "الذئاب البيض" وأحس على صدري بوجود عدة أوسمة، ومتوج بتزكيات وشهادات(من شهد له اثنان بالخير..)، من أرفعها مقاما وسامان منحني إياهما: من أدار بنجاح عملاقة الشمال وأحد أبرز مهندسي وكفاءات البلد عبر تاريخه أطال الله في عمره، الأول تزكية أو ثناء اعتزبه، والثاني تقدير، حين راج يومها أن المجلس العسكري الأعلى استدعاه لتولي رئاسة الحكومة، اتصلت به مستفهما سيادة النائب أصحيح ما سمعت؟ فرد علي قائلا لو كان الأمر صحيحا لكنت أنت أول من يستدعى. الرجل مثل سابقه يعني ما يقول، ولا يمنح الثقة لمجهول ولا يصدر شهادات التزكية جزافا يعلم ذلك من يعرفه. ليس من عادتي في الكتابة استخدام الضمير"أنا" ولا أن أذكر الأشخاص بأسمائهم على وجه المدح أو سبيل الذم، لكن خصوصية المقام: الإجابة علي "من هذا؟" أملت استخدام الضمير، ويملي فضل ذكر الفضل لذويه مراجعة العادة، مادامت في الترتيب أدني من مستوى القاعدة، وإن كانت إحدى مصادر التشريع، ربما تكون للحديث بقية ..
ليس بيدي سوى الرأي، ومقتنع بأن الرأي يطلب لذاته، وأن الاختلاف جبلة وحالة طبيعية مثلى اتسعت دائرته أم ضاقت ـ تعلق الأمر بالنصوص أو بسواها- أليس من حق كل طرف أن يفسر النص حسب فهمه أو طبقا لمقصده، ومن حقه أن لا يسلم بدستورية الاستفتاء مثلا أو بردود ذوي الاختصاص على السؤال القائل: أيعتبر الاحتكام لأصوات الشعب في حسم الاختلاف تسللا في لغة حكام الملاعب، وخرقا و مخالفة للنصوص عند فقهاء القانون الدستوري؟، وأن من الموضوعي ـ إن كان الرد بالإجماع نعم حسم الأمر لصالح عدم دستورية الاستفتاء، وإن كان ب "لا" أو اختلفت الردود كان الأخذ بمنهجية الاستفتاء طريقة مثلى لتحقيق هدف نظيف ودستوري.
في كل الديمقراطيات "النموذجية" لايوجد قانون أومنطق يقول أن الغلبة لصالح الأفضل، فالحسم بطريقة متحضرة يتم باللجوء للاقتراع والغلبة لمن حاز الأكثرية من أصوات المقترعين، صفه إن شئت بالأفضل أو بالأقوى، المهم أن تعلم أن السياسة في الأصل فن الصفوة في المجتمع الراقي، وفي مجتمع الغاب الحسم لصالح الفئة، ففي الغابة النموذج تكون السيادة عادة لفئة الأسود، وفي الغابات الأدنى منزلة تكون الغلبة للدببة أو للذئاب، وربما لفئة الجرذان إن تغلبت، طبعا ستجري كل فئة تحكمت تعديلات علي القانون المعروف، لكن مالا يناله التغيير بمتن الديباجة، النص القائل: الغلبة للأقوى.
بغض النظر عن تباين المواقف واختلاف الآراء بشأن دستورية تقديم نتائج الحوار الأخير للاستفتاء المرتقب إجراءه في الخامس أغسطس الجاري، فإن بقاء الاحترام وحسن التعاطي وحتى وجود الود قائما بين أصحاب المواقف المتباينة والآراء المختلفة فضيلة ونبل.
السياسة في الأصل فن راق ونبيل، من الأمثل أن تبقي ممارستها حكرا علي الفئة أو الفئات الأكثر تحضرا والأعمق وعيا، لأنها كالبياض تماما في قاموس البعض لا تتحمل الدنس، ويكفي السياسة بعد أن ألبست ردائها الجميل "الديمقراطية" حسنا وبهاء أن من حليها، بل من ثوابتها: المبدئية والانضباط، كما أن لها قواعد من أهمها احترام الرأي الآخر...، فالسياسة إما علم يلزم أن تراعي قواعده وأن تحترم ثوابته، أو فن فالفن أي فن يجب أن يمارس بإتقان، قد يقع التجاوز طبعا وقد تحدث أخطاء، فما كل ممارس للسياسة كمهنة أو كفن خبير ولا كل هاو موهوب، لكن من المفترض عادة تعاطي الصفوة(النخب) وفق الضوابط السليمة و بالمستوي النخبوي من اللغة، لكونها تستطيع إدارة الشأن المسند لها بجدارة، وتدرك أن في سائر اللغات متسع للأخذ بألفاظ رفيعة وناعمة، حتى في المستويات الحضيضية، يلزم تجنب الألفاظ التي تخلف خدوشا وجروحا، ففي كل اللغات توجد ألفاظ غير مسننة لها وقع الصواعق، من الصعب الاعتقاد بوجود سلطة تريد لأعوانها الإخفاق أو تدفع بهم لارتكاب الأخطاء بل العكس، ولا بوجود معارضة تتخذ الخدش في المشاعر والخوض في الأعراض والإهانة مبدأ، لكن الجميع مطالبون: باحترام المشاعر والأعراض وأن يحذروا إهانة من كرمه الله، فلو تم اجتناب تلك المحاذير، لمر البعير أو مرر بكل سهولة من ثقب الإبرة.
لاتدفعوا بالأمور عكس الاتجاه الصحيح، تعاطوا مع المتن واحذروا الخلط بين القضايا الأساسية والجزئيات، لاعلاقة لكل مايدور في فضائنا السياسي هذه الأيام بالإجراءات المتبعة ولا بالنصوص، راجعوا الأسس وتأكدوا من سلامة أصل البناء، لنفترض أننا أمام حالة مريض تعود أخذ علاجه عن طريق الوصفات لعدة عقود قبل أن تجرى له التحاليل والفحوص اللازمة لتحديد دائه.
ولو مؤقتا احذروا الظلم، في انتظار استكمال البحث عن مكان الثقب المعتم، فحين يقام العدل تسود الطمأنينة ويعم الرضى، وحين يقع الغبن تهب رياح السخط التي لا تتوقف أبدا ما بقي فرد واحد يشعر به.
الغبن أعلي درجات الظلم. تفادوا الغبن وأحرقوا النصوص، حينها سيحسم كل أمر لصاح الفاعل.