للهرِّ في ثقافة العرب منزلة كبيرة وفضائل جمة تصل حد المناقب وأوجُهُ شبه كثيرة بالإنسان ترفعه عن مستوى البهائم، كان ذلك قبل أن يصبح في العصور المتأخرة مضطهدا مع المضطهدين مشردا لاجئا يجوب الشوارع بحثا عن لقمة عيش أو مزعة لحم في القمامة، وتُعطَى صورته لمن أريد نبزُه بالألقاب وتحطيم منزلته في أعين الجماهير .
قبل استجلاء تلك الصفات هاكُم سيرة موجزة عنه بقلم الإمام كمال الدين الدميري في كتابه الماتع (حياة الحيوان):
"السّنّور: بكسر السين المهملة وفتح النون المشددة، واحد السنانير، حيوان متواضع ألوف خلقه الله تعالى لدفع الفأر، وكنيته أبو خداش وأبو غزوان وأبو الهيثم وأبو شماخ، والأنثى أم شماخ. وله أسماء كثيرة".
ومن هذه الأسماء القطّ، والهرّ، والضيْوَن.
وقد تناولته العرب في أمثالها بكثرة فقالوا: : «أثقف من سنور» والثقف – وإن كان في اللغة يعني الأخذ بسرعة فيقال: رجل ثقف لقف، أي سريع الاختطاف - إلا ان المهم أن صفة المثقف هذه بقيت لصيقة بالسنور خاصة به.
وقالوا: «أبر من هرة» أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة الحب لهم قال الشاعر:
أما ترى الدهر وهذا الورى ... كهرة تأكل أولادها
وقد خصص الإمام الجاحظ وهو الدارس الخبير بطباع الحيوان الناطق وغيره في كتاب (الحيوان) بابا عنوانه: "باب ما للسنور فيه فضيلة على جميع أصناف الحيوان ما خلا الإنسان" ، ذكر فيه من مناقب هذه الفئة ما يرفع وجوه المنتسبين لها ويغري الخارجين عنها بانتحال نسبها وصفتها وصورها، ومما قال فيه:
والسنور يناسب الإنسان في أمور : منها أنه يعطس، ومنها أنه يتثاءب، ومنها أنه يتمطّى، ويغسل وجهه وعينيه بلعابه، وتلطع (تلحس) الهرّة وبر جلد ولدها بعد الكبر، وفي الصغر، حتى يصير كأن الدّهان تجري في جلده.
وللسنور فضيلة أخرى: أنه كثير الأسماء القائمة بأنفسها، غير المشتقات. من ذلك: القطّ، والهرّ، والضيّون، والسنّور، وليس للكلب اسم سوى الكلب، ولا للدّيك اسم إلا الديك.
ثم تحدث عن صلاحية أنواع الحيوان للنطق فبين تفوق الهر في هذا المجال:
وقد تهيأ للكلب حروف مثل: عف عف، ووو وو، وأشباه ذلك. وتهيّأ للغراب القاف، وتهيّأ للببغاء من الحروف أكثر، فإذا صرت إلى السنانير وجدتها قد تهيّأ لها من الحروف العدد الكثير، ومتى أحببت أن تعرف ذلك فتسمّعْ تجاوب السنانير، وتوعُّد بعضها لبعض في جوف الليل، ثم أحْصِ ما تسمعه وتتبّعه، وتوقّف عنده، فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقول والاستطاعات؛ ثمّ ألّفتها لكانت لغة صالحة الموضع، متوسّطة الحال.
ويكفي هذا الحيوان فخرا ما ورد من مراثيه في كتاب سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي مذكورا اسمُه إلى جانب أرفع أعلام هذه الأمة، فقد ورد في ترجمة الإمام المقرئ الأديب، أبي بكر، الحسن بن علي النهرواني، ثم البغدادي المشهور بالعلاف (تـ 318 هـ) رثاؤه لهرّ كان له وكان يحبه ويأنس به، فدخل برج حمام غير مرة، وأكل الفراخ، فاصطادوه وذبحوه، فرثاه بقصيدة طنانة من عيون الشعر، يقول منها:
يَا هِرُّ فَارَقْتَنَا وَلَمْ تَعُدِ ... وَكُنْتَ عِنْدِي بِمنْزِلِ الوَلَدِ
وَكَيْفَ نَنْفَكُّ عَنْ هَوَاكَ وَقَدْ ... كُنْتَ لَنَا عُدَّةً مِنَ العُدَدِ
وَتُخْرِجُ الفَأْرَ مِنْ مَكَامِنِهَا ... مَا بَيْنَ مَفْتُوْحِهَا إِلَى السُّدَدِ
يَلقَاكَ فِي البَيْتِ مِنْهُمُ مَدَدٌ ... وَأَنْتَ تَلْقَاهُمُ بِلاَ مَدَدِ
حَتَّى اعتَقَدْتَ الأَذَى لِجِيْرَتِنَا ... وَلَمْ تَكُنْ لِلأَذَى بِمُعْتَقِدِ
وَحُمْتَ حَوْلَ الرَّدَى بِظُلْمِهِمُ ... وَمَنْ يَحُمْ حَوْلَ حَوْضِهِ يَرِدِ
وَكَانَ قَلْبِي عَلَيْكَ مُرْتَعِداً ... وَأَنْتَ تَنْسَابُ غَيْرَ مُرْتَعِدِ
تَدْخُلُ بُرْجَ الحَمَامِ مُتَّئِداً ... وَتَبْلَعُ الفَرْخَ غَيْرَ مُتَّئِدِ
وَتَطْرَحُ الرِّيْشَ فِي الطَّرِيْقِ لَهُم ... وَتَبْلَعُ اللَّحْمَ بَلْعَ مُزْدَرِدِ
.....................................................................
وَلَمْ تَزَلْ لِلْحَمَامِ مُرْتَصِداً ... حَتَّى سُقِيْتَ الحِمَامَ بِالرَّصَدِ
لَمْ يَرْحَمُوا صَوْتَكَ الضَّعِيفَ كَمَا ... لَمْ تَرْثِ يَوْماً لِصَوتِهَا الغَرِدِ
.........................................................................
قَدْ كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ وَفِي دعةٍ ... مِنَ العَزِيْزِ المُهَيْمِنِ الصَّمَدِ
تَأْكُلُ مِنْ فَأْرِ دَارِنَا رَغَداً ... أَكْلَ جُزَافٍ نَامٍ بِلاَ عَدَدِ
وَكُنْتَ بَدَّدْتَ شَمْلَهُم زَمَناً ... فَاجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ البَدَدِ
وَلَمْ يُبْقُوا لَنَا عَلَى سبدٍ ... فِي جَوْفِ أَبْيَاتِنَا وَلاَ لَبِدِ
وَفَرَّغُوا قَعْرَهَا وَمَا تَرَكُوا ... مَا عَلَّقَتْهُ يَدٌ عَلَى وَتِدِ
وَفَتَّتُوا الخُبْزَ فِي السِّلاَلِ فَكَمْ ... تَفَتَّتْ لِلْعِيَالِ مِنْ كَبِدِ
وَمَزَّقُوا مِنْ ثِيَابِنَا جددًا ... فكلنا في المصائب الجدد
وهي من 65 بيتا يمكن الاطلاع عليها في كتب الأدب والتاريخ.