"إن من البيان لسحر وإن من الشعر حكمة"، ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفا على الناس تعلم.
يقال إن الثقافة الذكية تلهم الرجل في الميدان، و السياسة الفاضلة تثير اهتمامه، والفعالية في الممارسة تلهب حماسه، وأن السياسة كالمرأة تستطيع أن تخدع أذكى رجل، وأن ممارستها، واقتطاف ثمارها، كاللؤلؤة تحتاج إلى صياد ماهر، والكسب والأنا فيها وحتى الفشل هم أساتذة الرجل وتلميذ المرأة؟!
ومهرجان المطار كان حقا مهرجان الفضائح السياسية والتحدي فعلا، ولكنه تحدي لوظيفة السيد الرئيس، الذي كشف في خطابه، وبسبب حقده على مجلس الشيوخ وعداوته للمعارضة، وتنكره لأفضال وإنجازات من سبقه، من رجال الدولة وأعلام السياسة، أنه لا يمثل فعلا هيبة ومقام رئيس الدولة، ولا يحسن استخدام أدوات السلطة وآليات الديمقراطية، وإنما ظهر وكأنه يلعب دور رئيس نادي رياضي يبحث عن الفوز لفريقه في مباريات ثانوية في فرق الدرجة الثالثة، وحتى لو كانت نسبة تزوير التصويت على التعديلات أللا دستورية وصلت إلى ما يقارب 70 % في المائة؟
نجحت المعارضة أخلاقيا وصار مجلس الشيوخ من بين الخصوم البارين المعارضين لسياسات السيد الرئيس الذين كانوا محور خطاب التحدي في المطار، وهم خصوم أغضبوا الرئيس وأثاروا الإعجاب لقوة إرادتهم وإصرارهم على مُمَارسة السياسة والمعارضة وبرؤية جديدة في الأداء والطرق المحفوفة بالشوك والألغام في العمل السياسي في ظل النظام الفردي العسكري القبلي الفاسد، فقد بدءوا حراكهم ومسيرتهم السياسية بطريقة جديدة في العمل السياسي المحلي على الأقل، وعندما اختاروا مواجهة النظام من داخل حصونه المنيعة، وفقوا في إحداث زلزال سياسي كبير، لم يكن متوقعا على الإطلاق، وذلك بإسقاط التعديلات الدستورية، وإبطال خطط الرئيس وسحر سحرته، ودهاقنته وخبرائه الشيوعيين وأنصاف اللبراليين الذين كانوا يبشرون ويعتقدون أنهم، قد حزموا أمرهم، وهزموا خصومهم، وأطبقوا على بوادر التذمر عند الشيوخ المحقرين والمظلومين والمبشرين بالإلغاء والحل.
لقد كان الكاتب والسياسي ورجل الأعمال البارز عزيزي ولد إلمامي سياسيا ودقيقا مصوبا في نعته وتوصيفه لطبيعة النظام الحالي وشخصية رئيسه والأطر العليا في نظام حكمه حين قال: "فتح النظام الجديد آمالا عريضة للشرائح المهمشة وخلق مطالب اجتماعية كبيرة لم يستطع تلبيتها لا حقا وكان البحث جار عن مكاسب عاجلة يتم تقديمها لأولئك الذين تبنوا خطاب التغيير.
كان البحث يجري أيضا عن تكوين ولاءات جديدة تحل محل رموز رسخوا وجودهم خلال العقود المنصرمة و يتمتعون بتأثير قوي، وهنا ظهرت الدعوة لتجديد الطبقة السياسية.
في مثل هذه الظروف عادة تنتشر تصفية الحسابات ويتم الإيقاع بالأشخاص بل وبالمجموعات والجهات: إجتثاث المئات من أُطر قبيلة معينة من الإدارة مثلاً. إنها سياسة معروفة. وهكذا تسلل بعض من المنتفعين وعديمي الخبرة والوصوليين إلى مفاصل هامة من الإدارة، بل أنهم أصبحوا قريبين جدا من مراكز النفوذ و القرار.
هكذا ظهرت طبقة مسؤولين بلا مستويات تقريباً وبلا خبرات قطعا (إلا من رحم ربك) وحين تسند المهام إلى غير أهلها فلا تسأل عن النتيجة. وكان هؤلاء (أي الإنتهازيون) يتبجحون بولائهم المطلق للنظام و يبحثون عن المنافع غير المستحقة ويلفقون التهم ضد الأبرياء والشرفاء لإبعادهم عن الطريق. أما العقلاء و المتزنون من المسؤولين فلا يأخذ برأيهم غالباً ويتم تهميشهم إذا لم يتبنوا الخطاب السائد.
فلا زال قطاع العدالة علي سبيل المثال وكرا للفساد والمحسوبية والسمسرة وقضاته لا يتمتعون بالاستقلالية ولا بالتكوين المطلوب وأحكامه مجمدة، ولا تحظى بالثقة اللازمة. وذلك رغم الخطاب الرسمي الذي يمجد محاربة الفساد و دولة القانون، ورغم أن العدل أساس الملك وأن الظلم مؤذن بخراب العمران- كما يقول ابن خلدون-، ورغم أنه لا عدل بدون قضاء ولا فائدة في قضاء لا نفاذ لأحكامه "يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له".
رغم الجهود المبذولة على مستوى القطاع المالي فقد أدت الخيارات المتبعة إلى تضاعف المديونية التي انتقلت من 2.9 إلى 4.9 مليار خلال 7 سنوات، كما أن الريع الهائل العائد من تضاعف أسعار خامات الحديد والذهب والنحاس تم تبديد الجزء الأكبر منه في مشاريع غير منتجة ولم يتم التفكير في الأيام الصعبة وعندما تراجعت الأسعار تعطلت وتأخرت مشاريع استثمارية كبيرةالتضييق على رجال الأعمال، خلال هذه الفترة أيضا تمت مضايقة رجال الأعمال، كباراً وصغاراً، تباعا وبشكل منهجي وتعرضوا للاعتقال وتم حرمان العديد منهم من الصفقات العمومية وخرق إجراءاتها عند مشاركتهم فيها، كل ذلك ليتم إقصاؤهم. و على كل حال يقال أن في الظلم هلاك للرعية و إن رأس السياسة استعمال الرفق".
والرعية على قلب الأمير، وكما تكونوا يول عليكم، لقد كان الرئيس في خطابه المنهي به حملته كاشفا فعلا ولكن لشخصيته وطبيعة جمهوره السياسي الذي يردد عليه أنه قائده، لقد ظهر السيد الرئيس متشنجا متوترا وفاقدا لمقومات رجل الدولة، والقائد السياسي الذي يمتلك الرؤية السياسية لرجل الدولة وقيادة الأمة والقدرة على التوصيل والإقناع، فكان كل ما أظهره من سلوك وطرحه على الجمهور من أراء و أفكار هي في نجملها وتفاصيلها نزوات وانفعالات شخصية غاية في الأنا والإحساس المفرط بالحقد والغضب على المعارضين السياسيين، الذين لا يعتبرهم الرئيس من رعيته ولا من مواطني دولته ولا حتى من السياسيين الموجودين على تراب هذا الوطن؟.
لقد أثبت السيد الرئيس في كل خطاباته المتشنجة والمستفزة وفي جميع عواصم الولايات، أن المستبد لا يمكن أن يكون قائدا سياسيا ولا حتى زعيما قوميا، وليس في مقدوره، ولا هو مؤهل لأن يقود نظاما أو حراكا ديمقراطيا، فقد أظهرت رؤيته وثقافته وطرحه ارتباطه بآليات وأدوات الحكم في بلاد السيبه، وبلاد الفترة، والمنكب البرزخي والنظام البدوي القبلي، فكانت كل مهرجاناته وخطاباته تنتمي شكلا ومضمونا لما عرف في تراثنا الشعبي بثقافة(الروايه والتويزه)، فلا توصيف علمي دقيق ولا طرح سياسي وطني مقبول، موغل في الاستخفاف بعقول ووعي المخاطبين والسامعين، وهو يبشرهم بواقع هم له ضحايا، ويتحدث لهم عن إنجازاته الأسطورية في الخدمات التي لا وجود لها إلا في حس المتكلم، وهو في كل ولاية يتحدث لأهلها عن التهميش والغبن والحيف والتخلف، وهذا حق لا غبار عليه لكن من المسؤول عنه ومنذ تسع سنوات أليس هو السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز ونظام حكمه الفردي الفاسد الفاشل، ولقد صدق ربنا جل في علاه، فقد كشف لنا عن جبلة وطبيعة نظرة الحاكم الظالم المستبد لوعي رعيته فقال جل وعلا:{ فستخف قومه فأطاعوه}.
لم يكن اختيار الغباء السياسي مهاجمة السيد الرئيس للشيوخ والمعارضة على ذلك النحو وبذلك الأسلوب، والكساد الأخلاقي باستخدام التسريبات، التي تنتهك الخصوصيات الخاصة والعامة من طرف السيد الرئيس ونظامه العاجز الفاشل، والذي يفترض فيهم أن يكونوا حماة لها هو أظهر السقوط وأبرز مظاهر الهروب إلى الأمام، فالظاهر والواقع أثبتا أن السيد الرئيس ونظامه يوظفون الدولة ومؤسساتها وضغط حاجة المواطن وضعفه في الحرب الغبية على سياسات ورجال الأنظمة السابقة، وعلى مجلس الشيوخ والمعارضة، والذي أظهرت كل المهرجانات مستوى وحجم الغضب الرئاسي عليهم، والسقوط الأخلاقي في حقهم، والذي أظهر مهرجان المطار أنهم مع المعارضة قد وضعوا في دائرة الاستهداف سلطوي الخطير،الذي بشر به مهرجان المطار، وفي سياق يتسم بقدر كبير من الصراع الخفي والعنيف بين أغلب اللاعبين المحترفين، والمتنافسين بذكاء وغباء في مراكز الدولة ومفاصل المؤسسة العسكرية المستغلة، وهو صراع لا يعرف أي من المتصارعين واللاعبين ما في أغوار ونفسية وفكر وأسلحة الآخر، وفي ثنايا ذلك الصراع، المفتقر الأبسط الضوابط والآداب والقيم التي تربا عليها وقدسها أهل هذه البلاد واعتبروها جزئا من شخصيتهم وإرثهم القيمي، لكن صراع السياسة في حس السيد الرئيس ومنظومته لا يعرف حدودا ولا محاذير، ويبرر ويشرعن ويقود ويدفع إلى كل محظور، ومستحيل.
سياسيا وعمليا مبرر ومفهوم موقف الشيوخ وردة فعلهم الوطنية الغاضبة، لأن الرئيس والسلطة ظلموهم واستهدفهم بغير وجه حق، وصمم الوزراء وساسة الحزب على ضرب قيمتهم الأخلاقية ومصالحهم الوطنية وعلاقاتهم الشخصية بالأوسط الوطنية والسياسية، من خلال التشويه الممنهج وغير المبرر في عملهم ووطنيتهم وخصوصياتهم، ومن خلال متابعتي كمراقب سياسي ومتابع إعلامي ومحلل، ولمدة سنوات، فإن مجلس الشيوخ كان يقوم بأعماله في سياقات السياسات المتبعة والموالية للسلطة، وكان في مجال التشريع والقوانين يناقش ويعترض ويوافق على ما يعرض عليه من قوانين، نعم ربما لم يكونوا معروفين بمواقف حدية من السلطة ولا مبادرين باتخاذ مواقف بارزة من السياسات الظالمة والمستبدة للسلطة، وربما لأنهم لم تعرض عليهم قوانين ذا طبع وهدف مؤثر كحال التعديلات المقترحة للدستور التي أسقطوها وأظهروا بذلك دورهم ووطنيتهم مما جر عليهم هذا القدر وذلك المستوى من الغضب الفاجر والحقد الكبير والعداوة المبالغ فيها من السيد الرئيس الذي أظهره وعبر عنه في كل مهرجاناته وخاصة مهرجان التحدي في المطار ؟.
سيدي الرئيس لا ريب ولا شك أن السياسة في الإسلام وأنت رئيس كل المواطنين معارضة وموالاة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية تعني وتوفّر أفضل مستوى من الصدق والعدل والإنصاف للخصم والنصير، وكأفضل مقوم من مقومات الحياة والأمن والرقي والازدهار وتدبير الشأن العام وقد أمرك الله في قوله تعالى:{ ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
والدارس للتاريخ السياسي للإسلام وفي أيام تنزل أحكامه في الواقع ومقايسته بالحاضر البشري اليوم، وعند تقصي المبادئ التي يقوم عليها النظام السياسي الذي يرعى شؤون الناس أفضل رعاية لما تعدينا الإسلام كأفضل نموذج للنظام الذي يحقق للبشرية أعلى مستوى من الرقي و الأمن والعدل والإنصاف الاجتماعي.
وليس من باب البكى أو التغني على الماضي فإننا نقول سيدي الرئيس بأن التجربة الحية في التاريخ تؤكد لكل باحث في هذا الموضوع إن الإسلام قدم أفضل نموذج في السياسة والعدل مع الخصوم والإنصاف للعدو والأمن للجميع خلال حكمه للبلاد. وبالأخص سيدي الرئيس في عصر النبوة وعصر الإسلام الأول إذ كان المسلم يعيش في أمن تام على حياته من أي اعتداء خارجي، وكانت حياته تمضي بصورة وطيدة لا يعكر صفوها شيء من الجوع أو العري أو الخوف من أي شيء سوى الخوف من الله سبحانه وتعالى الذي هو القاعدة الرصينة التي يقوم عليها تدبير الشأن العام والأمن الاجتماعي في الدولة .
يقول القائد القدوة والأسوة المعلم – صلى الله عليه وسلم- "من أصبح وأمسى وعنده ثلاث فقد تمت عليه النعمة في الدنيا، من أصبح وأمسى معافاً في بدنه، آمنا في سربه عنده قوت يومه، فإن كانت عنده الرابعة فقد تمت عليه النعمة في الدنيا والآخرة، وهو الإيمان".
والإمام علي – رضي الله عنه-" إن من النعم سعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب".
سيدي الرئيس ولو تجاوزنا التجربة التاريخية للحكم الإسلامي وتطبيقات أحكام الدين في الحياة العامة، وفتحنا ملف العدل والإنصاف قواعد وأسس الأمن الاجتماعي من خلال المبادئ والآليات التي جاء بها الإسلام لتكاملت الصورة عندنا عن نظرية الإسلام في السياسة والاقتصاد وإدارة الشأن العام والأمن الاجتماعي.
ولقد قام علماء الإسلام بالكتابة في هذه المواضيع وأسهبوا فيها قديماً وحديثا، يقول عالم فقه السلطان في تاريخ الإسلام الإمام الماوردي:"اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستة أشياء في قواعدها وإن تفرعت وهي: دينٌ متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمنٌ عام وخصبٌ دائم وأمل فسيح".
فالأمن والاستقرار مظهران خارجيان لجملة عوامل ذكرها الماوردي ورددها من جاء من بعده مثل الإمام محمود شلتوت حيث حلل في تفسيره للقرآن الكريم العوامل الباعثة عن الاستقرار والأمن متخذا من كتاب الله أساسا لمنهجه الفكري:" يدلُّنا واقع الحياة وتاريخ الاجتماع أن احتفاظ الأمة بكيانها يرتبط بأمرين لابد منهما الاستقرار الداخلي والاستقرار الخارجي.
والاستقرار الداخلي أساسه صلاح الأسرة وصلاح المال وقوة النظم التي تساس بها في جميع شؤونها، والاستقرار الخارجي أساسه احتفاظ الأمة بشخصيتها واستعدادها لمقاومة الشر الذي يطرأ عليها والعدو الذي يطمع فيها، ولابد مع هذا وذاك من تقوية العنصر الروحي في قلوب أبنائها حتى يتحقق فيما بينهم التضامن والتعاون على السير في الأمة في ظل تشريعها القوي العادل في سبيل الخير والفلاح والعز والمنعة.