شهدت الساحة السياسية الموريتانية في الأسابيع القليلة الماضية حراكاً سياسياً قوياً حول "استفتاء شعبي" قرر النظام تنظيمه في الخامس من أغسطس الحالي، سعيًا لإجراء تعديلات في بعض "المؤسسات الدستورية" والرموز الوطنية. هذا الحراك اتّخذ في شكله العام مواجهات ميدانية بين القوى الداعمة للاستفتاء بقيادة الجنرال محمد ولد عبد العزيز والقوى الرافضة للاستفتاء بقيادة مجموعة الشيوخ الرافضين لإلغاء مجلسهم، بالإضافة لسند ميداني
يقوده بعض زعماء أحزاب المعارضة التقليدية والحركات الحقوقية والسياسية.
النظام بدأ حراكه الداعم لإنجاح "التعديلات الدستورية" بمهرجان خطابي في ملعب حي ملح بمقاطعة توجنين، متوعدًا بفضح المعارضة المقاطعة للاستفتاء، وقبل جولته في الداخل شغل الرأي العام، خصوصًا في العاصمة نواكشوط، بتسريبات كُبحت قوتها الموجهة لتحطيم المعارضة بفعل ذكاء تعامل رئيسا حزبي تقدم وتواصل، وأكدت الشكوك التي تحدث عنها البعض حول الدور الخطير الذي يلعبه "الوسيط المعارض" لتمييع النضال، بتحويله من نشاط ميداني عفوي رفضاً للمعاناة وانتصاراً للقيم الديمقراطية إلى نضال مدفوع الثمن يمكن التحكم فيه في أي لحظة.
الضجة الإعلامية التي واكبت الرد على التسريبات شغلت المعارضة عن مواكبة الزيارات التي قام بها ولد عبد العزيز لعواصم الولايات الداخلية للإشراف شخصياً ورسمياً على الرسالة الموجهة للزعامات القبلية والسلطات الإدارية في الداخل بضرورة إنجاح التعديلات الدستورية، ولو باللجوء إلى طرق التزوير التقليدية، وهي طرق متاحة بشكل كبير في هذا الاستفتاء نظراً لتنظيمه فقط من طرف مجموعة رغم اختلاف تصنيفها السياسي، تعتبر أن نجاح التعديلات يشكل خطوةً مصيرية في هذه المرحلة من حياتها السياسية.
حملة النظام الإعلامية الداعية للتعديلات الدستورية ركّزت في أغلبها على خطابات الجنرال محمد ولد عبد العزيز في المهرجانات الشعبية التي انطلقت من الليلة الأولى للحملة واختتمت بمهرجان كبير على شارع جمال عبد الناصر في العاصمة نواكشوط عبّرت طريقة التحضير له - ترغيباً لسكان الأحياء الشعبية بالمال وصوت كرمي منت آب، وترهيباً للعمال بالفصل التعسفي، وإغراءً لمتابعي المشهد السياسي بكشف "المفاجأة الكبيرة"- عن فشل الخطاب الرسمي في إقناع المواطنين بمشروع التعديلات، كما عُبّر أيضاً عن ذلك بوضوح في طريقة عرض استهلاكية لأبناء شهداء المؤسسة العسكرية كخطوة أخيرة لاستجداء التعاطف مع التعديلات قبل الاقتراع بيومين.
يعود تركيز الحملة الإعلامية على خطابات ولد عبد العزيز فقط لعدة أسباب من أبرزها الصراع بين بعض قادة الموالاة، بالإضافة لبعض الإطلالات غير الموفقة كخطاب رئيس الحزب الحاكم في واد الناقة الذي كان سيوقِع النظام في "فخ ديني" سبق وأن استغله مراتٍ عديدة لسحب البساط من تحت أقدام قادة المعارضة في لحظة حرجة، أو لإلهاء الرأي العام عن جرائم يقوم بها في تلك الفترة.
هذا في حين يتمثل الطرف الثاني المناوئ للتعديلات الدستورية في القوى المقاطعة لها وهي عبارة عن تحالف بين بعض الزعامات الحزبية والحقوقية ومجموعة من الشيوخ الرافضين للتعديلات، بالإضافة لبعض التنظيمات الشبابية المعارضة. وهي تحالفاتٌ استطاعت أن تثبت وجودها في الساحة طيلة أيام الحملة رغم القمع الشديد الذي تعرضت له والتجاهل الإعلامي الفاضح.
هذه المعارضة المقاطعة للاستفتاء ركزت في أغلب أنشطتها الرافضة لإجراء التعديلات على العاصمة نواكشوط المسكونة بالتوجهات السياسية المرتهنة بحجم المال السياسي والبحث عن المكانة السياسية الأقوى مرحلياً لتأمين الحاضر أو للحصول على حظوة في المستقبل. وقد كان السند الميداني والشعبي للمعارضة المقاطعة عبارة عن مجموعات شبابية راديكالية سياسياً، وبعض المواطنين الذين أرهقهم الواقع المعيشي المزعج دون أن يقنعهم خيار المعارضة الحالية المشوهة بوجود بعض مغاضبي الأنظمة السابقة والنظام الحالي المماثل لها.
من هنا فالحراك الميداني الذي قامت به المعارضة بالتزامن مع حملة الاستفتاء على "التعديلات الدستورية" يعود بالذاكرة إلى حراك الجبهة بعد انقلاب 2008، عندما ارتمى أغلب أحزابها حينذاك في حضن النظام، ليصبحوا مجرد أوراق يستغلها في اللحظة المناسبة كما هو الحال الآن بعد فشل خطة النظام الأولى المتعلقة بتجديد الطبقة السياسية، التي انتهى العمل عليها نهاية 2015 بوفاة ابن "الرئيس" ولم يبق أمام النظام الآن من بديلٍ لها غير اللجوء لتأسيس جمهورية ثالثة بطريقة غير توافقية.
على أن حراك المعارضة المقاطعة رغم نجاحه في جمع كل القوى الرافضة للاستفتاء في كتلة واحدة، إلا أنه لم ينجح في الوصول إلى المناطق الداخلية المغيبة عن المشهد السياسي بفعل هيمنة الزعامات القبلية والسلطات المحلية، ذلك أن وصول الخطاب المعارض إليها عن طريق أنشطة ميدانية قوية يعدّ أمراً بالغ الخطورة بسبب حالة التمرد المحتمل ظهورها هناك مستقبلًا، مع ما سيترتب عليه من تحطيم هالة السلطة.
ومع أن النشاط الإعلامي للمعارضة المقاطعة كان ناجحاً خصوصاً على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، إلاّ أنه كثيرًا ما نُسفَ بفعل التصديق الساذج لبعض الشائعات، كما حدث في الشائعة التي مفادها أن بعض "حكماء" اللجنة المستقلة للانتخابات رفضوا التوقيع على حالات تزوير قام بها النظام، فجنّ جنون بعض نشطاء المعارضة، إثر ذلك، وبدأ التطبيل لحكماء الشائعة ووصفهم بالأبطال، قبل أن يتضح أن المسألة مجرد تضليل إعلامي سخيف وافتراء على حكماء لجنة طالما دأبت على ممارسة التزوير دون أن تخجل منه، بل هي تصرّ، مع ذلك للمفارقة، على إقناع المواطنين بتزويرها حتى لو كان ذلك بعملية لا تستقيم حسابياً كالقول أن عدد الأصوات المعبر عنها 682247 و أن عدد المصوتين بالحياد: 30039، وأن عدد المصوتين بـ"لا": 80124، وأن عدد المصوتين بـ"نعم": 584084، أي ما يعني أن عدد الأصوات المعبر عنها 694247 وليس 682247.
لكن رفض غالبية المواطنين للمشاركة يوم التصويت على التعديلات، رغم أن الكثير منهم قام بالحضور لمبادرات ظاهرها دعم التعديلات وباطنها الحصول على دعم مادي أو لدفع ضر كحالة تجار السوق المركزي، يؤكد مجددًا على إفشالٍ شعبيّ وسياسيٍ واع جداً، وهو، بالإضافة لذلك، يطرح تساؤلات كبيرة على مستوى النظام والمعارضة من قبيل: هل سيغير هذا الحدث من استراتيجية المعارضة المقاطعة وتبدأ في التخلص من الشخصيات المتورطة في الفساد حتى يكون خطابها ضد النظام مقنعاً بانتهاج خط المقاومة السياسية الراديكالية؟ أم أنها ستتفكك لتتحدّ كالعادة في المعركة المقبلة بين القصر والمجموعة الحضرية دون الاستفادة من مفارقة تصويت السبخة وبوتلميت على التعديلات الدستورية الأخيرة، رغم الرسائل الهجومية المباشرة التي حملها خطاب الزويرات!؟