تقول نظرية مبسطة للتنمية، إن قضية التنمية تشبه رحلة بسيارة من منطقة( أ ) إلى منطقة (ب) ـ فهناك سائق، وسيارة، و طريق، وهناك مسار لقطع هذا الطريق هو (الإستراتيجية المتبعة) ..والغالب ـ كما يقال ـ أنه في إفريقيا فإن السائق سيئ، والسيارة رديئة والطريق الصعب ، والركاب غاضبون وغير متعاونين.
وإذن فلن تكون هناك نتيجة ، كما هو الحاصل فعلا في الواقع.
غير أن شيئا ما يحدث الآن، فهناك تحول واضح نحو مقاربة تقول إن الفقر هو الذي جاء بالدكتاتورية وليس العكس،
(أي أن المشكلة ليست في السائق) وهو رأي يجابه بطبيعة الحال باعتراضات لا حصر لها، وبأمثلة أكثرها سطوعا حالة نيجريا التي بالرغم من مواردها الهائلة، فهي إلى الآن مازالت تتخبط في غياهب التخلف، وتتردى من سيء إلى أسوء سواء على مستوى الصراع العرقي والديني، والاغتيالات السياسية والفساد الإداري إلخ..فلماذا لم يخلق الثراء ديمقراطية حقيقية في هذا البلد ؟
والواقع أن حالة نيجريا هي حالة بالغة التعقيد( 250 مجموعة عرقية) ولكنها مع ذلك تصلح نموذجا لهذا النقاش، فقبل عقدين كانت نفس المقاربة التي تقول إن مشكلة نيجريا هي غياب الديمقراطية، مستشرية وقناعة لا يتطرق لها الشك ، وكان المطلب العام هو الديمقراطية، فلما أٌقرت الديمقراطية وبدأت التعددية سنة 1999 انهار الوضع، وتحولت نيجريا الغنية إلى دولة فاشلة بمعدل فقر يتجاوز% 60 ..
واليوم ، بل قبل ساعات من الآن انتهت الانتخابات في كينيا بسلام،(كما يقال) ..ولكن منسوب الجزع من اندلاع العنف يتزايد مع الوقت ،فالانتخابات السابقة سنة 2007 قتلت وشردت عشرات الآلاف.ومن المتوقع أن يفوز الرئيس الحالي كنياتا بالرغم من حصيلة فترته التافهة، وبالرغم من أنه كان نائبا للرئيس الذي فاز بعد كارثة 2007..
لقد أصبحت الديمقراطية (الغربية ) في إفريقيا هي الطريقة الأمثل لإرباك التنمية والالتفاف على أجندات التطوير ودفع الشعوب إلى دوامات الفتن والتناحر العرقي ، كما حدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية و أوغندا وزيمبابوي وساحل العاج وليبريا وسرياليون ومالي ونيجريا وكينيا، فهذه دول هي أمثلة حية على الفوضى وعدم الاستقرار و الاغتيالات السياسية والتناحر والتصفية العرقية والإبادة الجماعية.
والواقع أن مشاعر الإحباط وتزوير الإرادات، بالإضافة إلى الأسئلة القلقة المرتبطة بعلاقة التنمية بالديمقراطية هي من الأمور التي يخشى أن تخلق جوا من الخنوع والاستكانة، والهروب من المشاركة (التصويت بالأرجل) كما يسميه أحد الباحثين، وهي أمور يخشى أن تفتح الباب على مصراعيه لموجة ثانية من الدكتاتوريات الناعمة حيث لا سجون ولا تضييق على الصحافة مثلا ولكن لا رجوع عن الخط المرسوم ..
وبالرغم من أن هذا قد لا يبدو جيدا في نظر الكثيرين إلا أنه مع ذلك أصبح أمرا مقبولا أو على الأقل قابلا للنقاش، فرواندا التي شهدت في السنوات الأخيرة تطورا اقتصاديا لافتا هي مثال حي ومقبول، على التصرف الأحادي والتضييق على الحريات ، والعالم يقف صامتا وأحيانا مشجعا إزاء ما يحدث في هذا البلد من انتهاكات، بسبب ما يراه من نمو اقتصادي واستقرار مطرد بعد ما جرى من مآسي في منتصف التسعينات، والرئيس الرواندي بول كاغامي المستمتع بما يحققه من نتائج، يتباهى في وسائل الإعلام بما يسميه سنغافورة إفريقيا الصاعدة.
وفي الحقيقة فإن المشكلة المرتبطة بهذا الوضع هي في الواقع مشكلة عويصة، فقد كانت ساحل العاج تعد هي الأخرى في عهد هوفوت بونييه معجزة اقتصادية نادرة، وكان النمو المطرد في هذا البلد يغطي على ما يجري فيه من استبداد تماما كما يحدث الآن في رواندا، فلما أزفت ساعة الانتقال إلى الديمقراطية تهاوت الانجازات وكأنها بنيان من ورق، وحدث نفس الشيء تقريبا في جمهورية مدغسكر.. وربما يحدث نفس الأمر في رواندا في المستقبل ، وهذا ما يدفع الكثيرين إلى وصف ما يجري هناك بأنه مثال على التنمية غير المستدامة، خصوصا وأنه يعتمد وبشكل كبير، على العون الخارجي.
ستبقى بوتسوانا هي المثال النادر على التنمية الحقيقية في إفريقيا فهذه دولة مستقرة انتقل فيها معدل دخل الفرد سنة 1965 من أقل من 700 دولار إلى ما يقرب من ثمانية آلاف دولار سنة 2016، وبنسبة نمو بلغت % 8 و ظلت متواصلة من سنة 1980 إلى اليوم بالرغم من أنها دولة حبيسة، والواقع أنها تعتمد على ثروة معدنية جيدة، غير أن هذا هو بالذات سبب المشاكل في كل الدول المحيطة بها .
لقد استطاعت بوتسوانا أن تطور ديمقراطيتها البرلمانية الخاصة بطبيعة نموها ونمط حياتها، فلم تستنسخ النمط الغربي للديمقراطية ،ولم تستنسخ النمط الآسيوي للتنمية .. وبوتسوانا معروفة بظاهرة "الكوتلا" حيث يجتمع البرلمانيون مع المجموعات المحلية (في السابق تحت ظلال الشجر) قبل كل دورة برلمانية ويناقشون معهم ما سيثيرونه من أمور في البرلمان، ويذهبون عنهم وهم يعرفون المشاكل التي سيثيرونها في جلساتهم مع ممثلي الحكومة، ثم هناك دورة ثانية للكوتلا يجلس فيها البرلمانيون صامتين إلى جانب السكان وهم يناقشون مندوبي الحكومة ما تم إنجازه من تلك المطالب.
لقد خلقت الصيغة البوتسوانية للديمقراطية بشكل تلقائي مستوى مقبولا من الشفافية وأتاحت آليات المحاسبة الضرورية للتنمية،وبالتالي أسقطت نظرية "مقياس واحد للكل" التي روج لها الغرب على مدار عقود..
وهي في نهاية المطاف درس مهم لنا جميعا باتجاه التفكير في الصيغ المناسبة لديمقراطيات محلية نابعة من ثقافة المجتمعات وسلوكها في كل بلد على حدَة.