خلال المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه رئيس الجمهورية عزمه ممارسة حقه في اللجوء للمادة 38 من الدستور لطرح استفتاء على الشعب بخصوص الإصلاحات الدستورية، طرح عليه أحد الصحفيين سؤالا هل هو واثق من تصويت الشعب على هذه الإصلاحات؟ فقال إنه واثق من ذلك لأن الشعب، وهو يصوت للتعديلات، سيصوت على أمور أخرى..
نعم، كان الشعب الموريتاني بالأمس، وهو يصوت إيجابا على الإصلاحات الدستورية
يصوت وفي ذهنه تلك الأمور التي عناها الرئيس، فصوت لطرق وصلته بعد عزلة خانقة ومقيتة في أوجفت، و تجكجه، والرشيد، و العين الصفره، و شوم، و ازويرات، و انوامغار، و كرمسين، و المذرذره، و اركيز، و امبوت، و فم لكليته، و مقامة، و باركيول، و كنكوصه، و بومديد، و مال، و الطينطان، و آمرج، و باسكو، و بنكو، و جيكني، و عدل بكرو..
صوت لخدمات أخرى في صورة مستشفيات ومراكز صحية مجهزة قريبة منه، بها النواقص والملاحظات التي ترافق كل بداية لكنها حسنت من مستوى ولوجه للعلاجات، صوت لشبكات كهرباء امتدت إليه أسلاكها ومحطاتها بما توفره من فرص عيش ومهن لم تكن متاحة من قبل، أقلها وأبسطها تمكن مريض السكري المستخدم لحقنة الانسولين من الإقامة في قريته أو مدينته دون الاضطرار للهجرة بحثا عن برادة يحفظ فيها حقنته، فضلا عما وفرته من فرص عمل لصحاب ورشة النجارة والحدادة واللحامة وللتاجر والجزار ومُصلح العجلات وصاحب محطة الوقود وبائعة السمك وبائع الدجاج ومستخدم الحاسوب والهاتف الجوال..
صوت لخدمات تعليم أساسي انتشل آلاف الأطفال من الضياع في القرى و " دوابه " التي تم تجميعها، أو تلك التي بقيت في مكانها وتم تزويدها بمدارس مكتملة قابلة للبقاء، وصوت لشبكات مياه نظيفة بعد عقود من شرب المياه العسرة بالشوارد ولأملاح، والاشتراك مع الحيوانات في شرب مياه المستنقعات التي تبول فيها وتروث..! وصوت لتدخلات اجتماعية مصممة على مقاسه واحتياجاته الأولية من مواد غذائية أساسية وأسماك بأسعار رمزية هو من يقدر أهميتها له وقيمتها لديه لا غيره، وبكلمة واحدة صوت لشعوره بسخاء دولته له بما في يدها وتعميمه عليه قدر المستطاع..
هكذا صوت البسطاء على هذه الخدمات والتدخلات التي تصلهم في مناطقهم لأول مرة، والتي يبعث وصولها إليهم في نفوسهم الأمل في حصولهم على غيرها من خدمات لا زالوا يتطلعون إليها، ووجدوا أن الوعود بحصولهم عليها أصبحت أقرب للتحقق، وبناء عليه صوتوا للتعديلات أيضا، خصوصا أن ليس بهذه التعديلات ما يهدد أية مكتسبات حصلوا عليه أو أخرى يتطلعون إليها.. وطبيعي أن تطلعات هؤلاء البسطاء ليست هي تطلعات السياسيين هنا في نواكشوط ولا هي بالقريبة منها، ولذلك من الطبيعي أن يستغرب أو " يتفاجأ " هؤلاء السياسيون من إقبال ألئك البسطاء على التصويت على استفتاء مقدم لهم ممن عرفوه إلى جانبهم بغض النظر عن مضمون ما يقدمه.
أما النخب فلها هي الأخرى تطلعاتها وتقييمها والقوة التي تدفعها للانخراط في هذا المسار، فعلاوة على وعيها ولمسها لما شهدته البلاد من تحسن في شتى المجالات، خاصة منها تلك التي هي المقدمة والأساس لأي نهضة كوضع الأساسات اللازمة لذلك من بنى أساسية فإنها أيضا، أي النخب، هي من تعي معنى ومفهوم ومقومات الدولة، وهى القادرة أكثر من غيرها على تحديد كيف كانت وإلى أين وصلت الدولة؟
والدولة كما هو معروف حوزة ترابية وشعب وسلطة حاكمة ساهرة على مصالح الشعب وحوزته الترابية، وتعالوا بنا للحديث عن الدولة وسنصل لاستنتاج بأنها إذا كانت ولدت، كدولة مستقلة سنة 1960 وحققت ما أتاحته لها الظروف وسمحت لها به التحديات فإنها، بمفهوم الدولة المبين أعلاه، ولدت فقط قبل ثماني سنوات، ولدت بهذا المعنى لأنها قبل ذلك كانت بحوزته ترابية مخترقة ومنتهكة شرقا بالتنازل عن شريط كبير من ترابها لمجهولي الهوية و " والبدون " من مواطنين أصليين وأجانب مسلحين متطرفين، وشمالا لمهربين وتجار مخدرات ومتطرفين أيضا، وجنوبا لعابرين إلى بلاد سائبة هي المنفذ المفضل كقاعدة للهجرة السرية من كافة جنسيات العالم. أما شعبها فغير محدد ولا معروف، ويشترك مع كل الجنسيات في أوراقه ووثائقه المتاحة لكل من يدفع لمزور أو سمسار، والسبب في سيبة الأرض وتماه الحدود وضياع هوية الشعب هو بالطبع غياب سلطة تمتلك الرؤية والإرادة وتعي أولوية تأمين الحوزة الترابية وتحديد هوية الشعب..
ومن غير المفاجئ كثيرا ولا قليلا، تشكيك معارضة في نتائج استفتاء مقاطعة له واستبقت تنظيمه بحملة شعواء وتسليم مسبق بتزويره، وهللت لانخفاض في إقبال الناخبين عليه في عاصمة ظلت دوما في ذيل مناطق البلاد من حيث نسبة المشاركة في الانتخابات التي بها متنافسون كثر يحركون الناخبين، وفي فترة من السنة غير مناسبة، حيث نعرف الكثير من سكان العاصمة سجلوا على اللوائح الانتخابية توقعا منهم لتنظيم الاستفتاء في موعده الأول 15 أغسطس، لكنهم غادروا العاصمة إلى مناطق عطلهم داخل البلاد وخارجها و لم يتمكنوا من التصويت في الموعد الجديد للاستفتاء، إضافة إلى الدور الكبير الذي لعبه المقاطعون على شبكات التواصل الاجتماعي التي ظهرت خالية إلا منهم ومن تعبئتهم ودعايتهم، خاصة في صفوف الشباب الذين هم الهدف للدعاية في ظل غياب الطرف الآخر عن هذا المجال وتهوينه من دوره، وانهماكه بدلا من ذلك في المظاهر والمبادرات..
فقد كان بوسعي مثلا، كداعم متحمس لهذه الإصلاحات، تأجير ساعة من قاعة في فندق، وجمع الكثير من أقاربي وأصدقائي وجيراني الذين غالبا ما يكونون معي في نفس الاتجاه وليسوا في حاجة للتعبئة على أهمية هذه الإصلاحات الدستورية، وأدعو الصحافة والقنوات وأعلن عن مبادرة.. لكنني فضلت بدلا ذلك الاتصال بالكثير من الشباب التائه من 18 و 20 سنة والذي له عالمه الخاص وينظر عن يمينه وعن يساره ولا يدري شيئا عما يدور، ولا يجد من يوجهه ويعبؤه بمنهجية يستوعبها، وقد وجدت أغلبهم مخدرين بدعاية الطرف الآخر على وسائل التواصل الاجتماعي خاضعين لها ومسلمين بها، كما وجدتهم لا يدرون شيئا عما تحقق في البلاد من مكتسبات، ولا يفقهون شيئا عن أولويات البلد التي لابد أولا من العمل عليها باعتبارها هي المفتاح لما يتطلعون هم إليه مما سيلمسونه في حياتهم اليومية وما يشاهدونه في العالم ويعتقدون أن بلدهم يتعمد حرمانهم منه.. ولم أجد أي صعوبة في إقناع الكثيرين منهم عندما وضعتهم في الصورة شرحا للمكتسبات وتركيزا على الأولويات واستشرافا للآفاق التي تفتحها هذه المكتسبات، إلا أن أغلبهم لم يكونوا مسجلين عل اللوائح الانتخابية، وهذا ما يجب التركيز عليه مستقبلا والعمل عليه من الآن.
مشروع الرئيس كبير وطموح وانجازاته كثيرة ومتعددة، رغم الوضعية التي كان عليها البلد، ورغم حاجته لسنوات وسنوات من العمل المثابر والمتواصل، لكن تلك الإنجازات تحتاج إلى مسوقين غير تقليديين ولا " خشبيين "، فليس صحيحا أن الشعب مل الحديث عن الانجازات، لكنه ربما مل الحديث عنها بلغة خشبية جامدة لا تغوص في التفاصيل ولا تعتمد المشاهدات والمقارنات بين ما كان وما تحقق، ذلك ما كنا نلمسه دائما من خلال تهوين من لا يدركون متطلبات وأولويات التنمية مما تحقق على صعد مختلفة، ولا خيار آخر غير البدء به كونه هو الباب الوحيد لبلوغ المستويات الأخرى من التنمية التي يطمح إليها الجميع، لكنه يجهل بحكم السن أو المستوى المعرفي أو عدم الاطلاع، أو يتجاهل بحكم الموقف السياسي أن لكل تنمية مراحل وعتبات وأساسيات..
وبنسبة المشاركة في هذا الاستفتاء، ونسبة القبول الواسع لمضمونه في أوساط الشعب، سنستعير كلاما كرره الشيوخ المنحلون مرارا وهز له حلفاؤهم الجدد الرؤوس كثيرا، وهو أنهم عندما كان يقال لهم إن الإصلاحات الدستورية صوت ضدها بعد الشيوخ لا كلهم، كانوا يقولون إن ذلك لا يهم، فبمجرد أن صوت ضدها بعض الشيوخ فإن الموقف أصبح موقف مجلس الشيوخ، وبنفس المعنى بل وأكثر مصداقية وأوسع نطاقا، فإن تصويت غالبية الشعب الموريتاني على الإصلاحات، وبنسبة قبول عالية، أصبح الموقف موقفا للشعب..
كانت نسبة المشاركة في الاستفتاء ستكون أكبر لو أن الحملة ركزت على التعبئة والعمل الميداني في كبريات المدن، واستغلال الوقت المهدور في مواكبة المبادرات التي غالبا ما تكون تحصيل حاصل، أي جمع وتصوير الكثير من الداعمين للمشروع أصلا كان الأولى تفرغ كل واحد منهم للتعبئة لإقناع وكسب داعمين جدد.. ونعتقد أن القائمين على الحملة بكل مستوياها قد اكتشفوا ذلك، وإذا لم يأخذوه في الاعتبار في المحطات المستقبلية لمواصلة مشروعهم كموالاة وأغلبية تسعى للبقاء في الحكم، فمعنى ذلك أنهم لم يكتشفوا مكامن الخلل في عملهم ولم يستفيدوا من التجارب والدروس، وإن كان الأمر قد لا يرقى إلى ما يدفع إليه البعض اليوم من استغلال تدني نسبة المشاركة في بعض الدوائر كفرصة للتخلص من فلان وفلان.. أو على الأقل ينبغي تقصي الأسباب الأخرى لعزوف بعض المواطنين عن التصويت قبل تحميل المسؤولية لمدير حملة في هذه المنطقة أو رئيس لجنة في تلك.