في إحدى أماسي أكتوبر من عام 2010، كان كاتب هذه الأسطر في إحدى الضواحي الخلابة بجوهانزبيرغ، في جنوب إفريقيا. كنت في زيارة صديق أوتي فهماً وعلما وتأملا في خصال الليالي وتقلباتها، على حداثة سن وطراوة عود. وكان صديقي هذا من الجوالين “الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد ” –حسب تعبير أبي حيان التوحيدي- مما أكسبه فهما غواصا وفكرا وقادا.
ما إن اطمأن بي المجلس في بيته حتى التفت إلي سائلا: ها قد أظلتنا عشريةٌ جديدة، فكيف ترى مستقبل أمتنا فيها؟ وبما أنني لم أرزق فهما قادرا على تجاوز الأطر الظاهرة، فقد أجبته بأن العشرية القادمة ستكون صورة للعشرية السابقة لها في كثير من الأوجه.. وتحدثت على هذا النسق، وأذكر أني لم آت بشيء. كان صديقي –واسمه أحمد دولو، وهو صومالي يحمل جنسية جنوب إفريقيا- يستمع بهدوئه العادي متأملا فيما أقول، وما إن أنهيت كلامي حتى انطلق قائلا: أما أنا فأرى أن هذه العشرية ستكون عشرية التغيير والثورات. لن يأتي عام 2020 وعلى عروش السلطة أي من المستبدين الذين ترى اليوم… كلهم سيسقطون بثورات شعبية أو بطرق أخرى غير تقليدية. ورغم قوة عارضة صديقي وتماسك حججه إلا أني رفضت تحليله المجنح. بعد هذه الواقعة بأسابيع، وفي يوم 26 من نوفمبر، من عام 2010 نزلت مطار طرابلس الدولي قادما من جوهانزبيرغ لتغطية القمة الإفريقية الأوربية المنعقدة بطرابلس. عندما وصلت الفندق لاحظت أن رجل مخابرات قميء المنظر يتتبع خطاي بشكل لافت مكشوف. قلستْ نفسي وتعكر مزاجي لأني قادم من بلاد تنعم بالحرية، وقد نسيت أن هذه الصور المقيتة ما زالت موجودة. قضيت في ليبيا أياما أشبهت السنوات. كنت أستيقظ في الصباح الباكر-على غير عادتي- لأتمشى على شارع عمر المختار، وكانت نفسي تذهب حسرات للطابع العام للمدينة وساكنيها. خيل إلي أن الناس سالون لاهون، يمتصون كل الإهانات السياسية من خلال مص خراطيم الشيشة التي كانت مقاهيها تضج بالفارغين بعيد صلاة الفجر. كنت أفكر في فرضية صديقي أحمد وأنا أرمق المقاهي، محدثاً نفسي بأن من ينتظر الثورة من هؤلاء القوم إنما ينتظر من الماء جذوة نار. بعد هذا بثلاثة أشهر بالتمام والكمال، وجدت نفسي وسط الثوار الليبيين ورأيت الرجل منهم يسقط معرّيا صدره للدبابات، وإذا ما سقط قتيلا ينحني أحد الناس ويمرغ يديْه في دمه المراق تبركا بدم الشهادة!.. ثم يتقدم للموت هو الآخر! كأن شعارهم قول الأعرابي القديم: نُعرّضُ للطعانِ إذا التقينا * وُجُوهاً لا تُعَرّضُ للسِّبابِ! كنت أرمق المشهد ويظل سؤال يرفرف في ذهني: كيف طمرت هذه الشجاعة كل هذه الفترة ولماذا أسأنا الظن بأمتنا العظيمة؟ أسأنا بها الظن أمس… وها نحن نسيء الظن بما حققته من نيل للحرية اليوم. أوهام الأمن المفقود يخيل إلي هذه الأيام، وأنا أسمع كلام بعض المتأثرين بتفاصيل تعثرات سير دول الربيع إلى التحرر، أن هناك فئاما من الناس يشككون في محدودية ثمار الربيع. إن من يشكك في ثمار الربيع يحتج بأن هناك انفلاتا أمنيا هنا، وتراخ اقتصاديا هناك. أزعم أن العنف وانعدام الأمن كان أشد أيام المستبد… الفرق فقط أنه كان بعيدا عن الأضواء. الفرق بين العنف الذي نشاهده اليوم على الشاشة فننزعج منه، وبين “الأمن” الذي كان في ظل بعض المستبدين فرق لطيف. إن العنف الذي نشاهده الآن هو جزء ضئيل مما كان يجري داخل سجون الدول “الآمنة” تحت حكم المستبد. كان أسوأ من عنفنا اليوم هذا يحدث دائما وراء الجدران الصامتة فتتكسر عظام وتئن أرواح… لكن دون أن ندري… ودون فائدة مرجوة. أما الألم اليوم فهو ألم مخاض ستفيق بعده الأم الرءوم لتتأمل حماليق ولد تقر به العين، وتصان بميلاده الكرامة. لقد اعتقل نظام مبارك صديقا لي لشبهة عابرة، فعاش في سجنه زمنا وهو مغمض العينين 24 ساعة- حتى داخل زنزانته المظلمة- مغلول اليدين، يصفع، ويصعق الناس بالكهرباء بجانبه. تخيلوا لو أننا كنا نرى هذه الأفعال على شاشة التلفاز؟ هل كنا سنشعر بالأمن في ظل ذلك النظام؟ وهل سنفتقد ذلك الأمن بسبب سرقة ونهب عابرين سيعقبهما تحرر وسيادة قانون؟ المشكلة أن العنف كان يقع لكن في الظلام … فنتمتع بالشعور بالأمن الزائف في بيوتنا لأن صوت الضحية لا يصل إلينا. إن كون صوت صرخات جارك وهو يجلد لا تصل إليك لا يعني أنه “آمن”. لقد مر مئات الآلاف من شباب أمتنا بسجون الطغاة وقتل عشرات الآلاف، لكن دون أن يظهر ذلك على الشاشة –حصد حافظ الأسد في أيام 30 ألفا في حماة، وهو ما لم يحصده خلفه حتى اللحظة في الملحمة المجيدة الجارية- وكان بعض الناس يمجد “الأمن” في ظل الأسد! كنا في فراغ قبل موسم الربيع، كنا في العالم العربي ننظر لما يدور في البلدان الأخرى على أنه محوري وهام ويمكن أن ينقذنا. هل تذكرون كيف تابع العرب انتخاب أوباما وكيف عول عليه سذجهم باعتبار انتخابه طريقا لاحباً لتغير السياسة الأميركية في المنطقة مما قد يساهم في حل القضية الفلسطينية؟ هل تذكرون خطابه في القاهرة وكيف ملأ حياة كانت فارغة يومها؟ تصوروا الآن لو أن رئيسا أميركيا انتخب وأعلن أنه سيلقي خطابا عن قضية الشرق الأوسط في القاهرة… من سيهتم؟ هل تذكرون كيف كنا نرنو إلى الأتراك باعتبارهم مخلصين وتستخفنا أشعار رجب طيب أردغان لأننا نعيش في صحراء لا تنبس فيها شفةٌ وينِدُّ فيها جمل ولا يخفق فيها برق؟ هل تذكرون مركزية الحادي عشر من سبتمبر في تفكيرنا قبل ربيع العرب؟ كان أي تحليل يكتب ينطلق من تلك الحادثة. وكأن الليالي لا تلد إلا ما له صلة بالحادي عشر من سبتمبر.. أين هو الآن؟ فلا أحد الآن يحلل الأحداث ويربطها بناء على الحادي عشر من سبتمبر، ولا أحد يجلس ينتظر أوباما ليأتيه في بيته وليحرره من المستبد الجاثم، ولا أحد يهتم كثيرا بمجاملات أردغان. لقد كان الدهر ساكنا في بلادنا العربية، فلا أحداث ولا تغيير ولا أمل ولا حلم. أما اليوم فإن كل يوم يحمل صراعا وقراعا ولغطا وشغبا وتضحية وخيانة، والحمد لله. أنا مولع بهذا الزمن شاكر له، يستخفني سعيه، فقد كان زمننا قبلُ ساكنا خاملا ميت الروح… عجبتُ لسعيِ الدهر بيني وبينها… فلما انقضى ما بيننا سكن الدهرُ! ولعل من الأدلة على أن دنيانا تغيرت، السقف العالي الذي أصبح الجميع يتبناه. ارتفع السقف ألا تلحظون أن الناس أصبحوا –لما اجترحت أيديهم من معجزات- يتصورون أن كل شيء يمكن إنجازه وجهَ يوم؟ يظنون في تونس أن الحكومة تستطيع أن تمحو البطالة بقرار، ويحسبون في مصر أن خمسين عاما من حكم عساكرهم – المتخلفين عسكريا وعقليا- يمكن أن تمحى في يوم. هل تدرون ما السبب؟ السبب هو أن العقل الباطني للعرب رأى المعجزات تتحقق بفعل يمينه في يوم وليلة منذ سمع الصيحة الخالدة تدوي في جنبات القيروان: “الشعب يريد إسقاط النظام”. ثم سمعت الأمة الصرخة المباركة لأول دكتاتوريين يُغرغران بضغط الدهماء المعصومة: “لا رئاسة مدى الحياة” (بن علي) “لم أكن أنتوي الترشح” (مبارك)… ثم ارتفع السقف لأن الأمة سمعت مبارك –رغم جهاد العسكر- يناديه القاضي: المتهم: محمد حسني السيد مبارك! حاضر يافندم! لأنهم رأوا علي صالح مشويا يعالجه أربابه ويبحثون له عن مخرج ومأوى… تغير ما بالأنفس.. أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا * من الحسن حتى كاد أن يتكلما… لم يكد يتلكم بل تكلم… تكلم بكلام فصيح قال من خلاله إن الخوف تجارة إذا بارت لا يمكن أن تستعيد بريقها من جديد.. وتكلم ثم قال فيما قال إن الأمة أصبحت “تريد”… هي ذاتها.. لا تنتظر عسكريا أغبر يطل مصطنعا إنقاذها…. لا. لقد… عرفت الطريق وستلزمه حتى يسقط أقبح جيل قاد الأمة منذ برزت على مسرح التاريخ حتى اليوم. وربك أعلم…