اجتمع امرؤ القيس، والمتنبي، وطائفة كبيرة من الشعراء بوادي عبقر... كان امرؤ القيس مغضبا، وثائرا، ومتحسرا على حال الشعر؛ ذلك أن أنباء متواترة جاءت من القرن 20 تقول إن الشعر العربي قد ضاع، وإن الشعراء تائهون مغضوب عليهم، وملعونون، وإن أقبح وسام يمكن أن يوسم به شخص وصفُه بالشاعر، وإن من ينشد الشعر، ويدرس المعلقاتِ تطاله عقوبة قد تصل أحيانا إلى القتل... حاول المتنبي تهدئة امرئ القيس،
وطمأنته على الشعر، وأن هذه أكاذيب اختلقها شعوبيو ذلك الزمان، وأذاعوها لأغراض سياسية، وأن الذي نقل إليهم هذه الأخبار ـ وهم في عزلتهم بوادي عبقر ـ أبو العتاهية سمعها من ركبان قادمين من الخليج العربي، وأنها عارية من الصحة، وأن الشعراء مبجَّلون، مكرَّمون في ذلك الزمان، وأن عطاءهم ما يزال مستمرا، وأن في ذلك الزمان فحولا من الشعراء...
سكت الغضب عن امرئ القيس قليلا، ومدَّ يده إلى زقِّ خمر بجانبه، وشرب منه، ثم أطرق مليا، وقد صادف كلام المتنبي هوى في نفسه، وهدَّأ من روعه... وتحت شجرة غير بعيدة عن القوم يجلس الأعشى متوكئا على عصاه، وقد سره حديث المتنبي كما ساءه الخبر الذي أغضب امرأ القيس، ولكنه ظل متوجسا كأنه يحتاج إلى من يؤكد له صحة كلام المتنبي...
دعا المتنبي الشعراء الموجودين هناك إلى الهدوء، والتروي لمناقشة ما يجري في القرن 20 عن الشعر وعن حال الشعراء... جلسوا جميعا إلا الملك الضليل فلم يكن وكْدُه إلا البحث عن أبي العتاهية؛ لاستقصاء الخبر منه، وإثباته، أو نفيه مع أنه صرح للجميع أكثر من مرة أنه لا يثق بأبي العتاهية، وأنه متهم عنده...أخذ زهير بن أبي سُلمى الكلام، وقال: يا معشر الشعراء الحكمةَ الحكمة؛ إنكم لم تعودوا حاملي لواء الشعر، ولا سدنته المدافعين عنه؛ فما يهمكم من حاله وقد أفضى أمره إلى غيركم، فقد كفيتم خيره، وشره، وقد خلاكم الذم أيام كان شأنه إليكم، لأنكم وفيتموه حقه، وحفظتم له رونقه، أما وقد مر الزمان، وتقادم العصر، وتوالت حقب بعد أخرى؛ فاتركوا الشعر، والشعراء؛ فأهل كل زمان أدرى بحاله، وأعلم بمآله...دار النادل على القوم بكؤوس من الصفراء شربها من شربها، واستعفى منها آخرون، وتخللت الحديثَ ساعةُ صمت قطعها طرفة معاتبا زهيرا على هذا الكلام البارد، وهذا الحياد من الشعر وكأنه لا يعنيه، وقال: سحقا، وتبا لحكمة تُوصل صاحبها لهذا الحياد ... لم يَرُد زهير على طرفة، بل هز رأسه في أناة، وحلم دون أن يَنبُس ببنت شفة ...تدخل المتلمس، وارتأى أن يكتب الشعراء رسالة يوجهونها إلى عمرو بن هند تكون موسومة بختم وادي عبقر المعروف، ولكن طرفة رد عليه متهكما، وساخرا نحن نتحدث عن حال الشعر في القرن 20 ، ولا نعني حاله في هذه الأيام ...نحن نريد من يعطينا الخبر اليقين عن حال زملائنا في ذلك الزمان، وعن معيشتهم، وعن شعرهم، وهل هم معززون، موقرون، وهل ما يزال الشاعر الآمرَ الناهي صاحب الكلمة العليا، والقول الفصل أم إن الزمن قد تبدل، والأحوال قد تغيرت، وأرض الشعر قد أقفرت ؟
كان عبيد بن الأبرص ساكتا لا يتكلم وكأن ما يُخاض فيه من حديث لا يعنيه، مالك يا عبيد واجما ساهما، ألا تعطينا رأيك ...انتبه عبيد من غفلته وقال: ما أنا إلا واحد منكم؛ أوافقكم، ولا أخالفكم، وإني قلق مثلكم على مصير ديواننا، ومصدر فخرنا، ولكن لا أراكم أجمعتم على رأي وحد، ولا أنجزتم شيئا، وأنتم هنا منذ ثلاثة أيام تتداولون الأمر، وتقلِّبونه على أوجهه، ولم تصلوا بعد إلى شيء، وأخاف إن طال بكم المقام أن تفتُر حدَّتُكم، وتخبوَ جذوة حماسكم، ويذهبَ كل منكم إلى حال سبيله، ويعود إلى حيه، وقبيله...اعلموا يا قوم أن الشعر حياتكم، ومماتكم، وأنه ملاذكم؛ فدافعوا عنه بأنفسكم، وخيلكم، ورجلكم، فأي حياة ترجونها بعد ذهابه، وما أوصلكم إلى ما أنتم عليه إلا الشعر؛ فقد بلغني أن ذكركم ما يزال محفوظا، وأن شعركم في ذلك الزمان البعيد ما يزال مذكورا، وما ذلك إلا بسبب الشعر، وهاهو اليوم بحاجة إليكم فإن تقاعستم عنه، وتثاقلتم عن نصرة إخوانكم في القرن 20 وهِنتم وهُنتم، ورأيي أن تركبوا الساعة، وتستنفروا القبائل، والأحياء، وتخرجوا بمن خف معكم إلى نصرة إخوانكم، ومناجزة أعدائهم، وأعدائكم.
بارك عنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم، والمهلهل بن ربيعة، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن معدي كرب هذا الرأي، وأيَّدوه، ورأوا فيه الخلاص، وقالوا بلسان واحد: لا ينصر اللسان إلا السنان، وهل هي إلا جولة واحدة فنُعيد للشعر ماءه، وللشعراء مجدهم السليب...تدخل الحارث بن عباد، وقال يا قوم علاَمَ نختلف، ونحسم الخلاف على أمر لم نتحقق بعد من كنهه، ولم نتأكد من حقيقته؛ لا تنسوا أن الأمر ما يزال مجرد إشاعة قد تكون فِرْية افتراها أحد الأفَّاكين أعداء الشعر والشعراء...لنعملْ أولا على التأكد من حقيقة ما سمعنا، ولا تدعونا ننجَرَّ وراء أمر زائف، ما هكذا يا قوم تُساس الأمور.
انبرى المتنبي للفصل في هذا الحديث وقال: إن ببطن هذا الوادي شاعرا من شعراء ذلك الدهر فلم لا ترسلوا إليه، وتسألوه القدوم إليكم فعنده لعمري الخبر اليقين، وإنه لن يبخلَ عليكم بتفاصيل الأمور، وخباياها... نعم الرأي والله أين كان هذا الرأي يا متنبي، ونحن نستشير الناس، وقد عُمِّيَ علينا في الأمر؟ أجاب المتنبي: لم يحضرني إلا الآن...
ركب جرير جواده، وضرب حتى أبعد في الوادي، ولم ير شيئا، فَهَمّ بالرجوع، ولكنه رأى من بعيد شخصا ملتحفا بغطاء تحت شجرة ظليلة وارفة، فاقترب منه فإذا به يحتسي فنجان قهوة، وحوله سجائر مبعثرة، وقد أرهقه طول السفر، وكثرة السهر...دنا منه، وحيَّاه، وقال عم صباحا أيها الغريب الشاعر ...فأجاب؛ بل أنا الشاعر الغريب ...آنس جرير من الرجل اعتداده بنفسه، وثقته بشعره، وعلم أنه صاحبه فقال: إن الشعراء مجتمعون بوادي عبقر، ويسألونك الانضمام إليهم؛ فلهم إليك حاجة لا يستطيع غيرك من أهل الدنيا أن يقضيَها... انفرجت أسارير الرجل، وتهلل وجهه، وقال: لبَّيك لبيك، من من الشعراء هناك؟ قال إنهم كثير؛ امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، والمهلهل، والفرزدق، والمتنبي... حسبك حسبك ففي من ذكرت كفاية.
انطلق جرير مع الشاعر إلى حيث القوم مجتمعين، ولما أشرفا عليهم ارتاع الشاعر لهول ما يرى من الشعراء وقال في نفسه: أيعقل أن يكون كل أولئك الشعراء مجتمعين ينتظرون قدومي؟
جلس الجميع في ترقب، ولهفة، ثم حيوا الشاعر، وسألوه عن حاله، ومن أين مقدمه، وما وجهته فأجابهم: أنا قادم من بلاد تسمى قمعستان، رجالها نساء، ونساؤها ليسوا رجالا، ووجهتي أرض لا سماء لها يعيش أهلها على أديمها فقط دون أن يرفعوا أبصارهم إلى الأعلى.
خاطبه الحارث بن حلزة مالك تتكلم بما لا يفهم، هل لك أن تصل إلى فحوى قصدك دون هذه الأحاجي؟ قال امرؤ القيس: دع عنك ذكر هذا كله فما له أردناك .
لقد بلغنا أن الشعر في زمانكم قد لان عوده، وكسرت قناته، ولم يعد له شأن يذكر، وأنكم معشر الشعراء قد نُكِّل بكم، واعتبر قرضكم الشعر جريمة يُعاقب عليها، وبلغنا أن لكم مكانا تأوون إليه حين يتأوبكم شيطان الشعر فيه تمارسون طقوسكم الشعرية، وعباداتكم الأدبية بعيدا عن أعين ذلك المجتمع الذي يضطهدكم، ويحاصركم، ويؤذيكم، وقد اجتمعنا هنا كما ترى للبَتِّ في قضيتكم؛ فأنتم أبناؤنا لم نُوَرِّثكم درهما، ولا دينارا وإنما أودعناكم هذا الفيض الذي جادت به قرائحنا، وقذفته في روعنا ربات الشعر، وشياطينه فإن كان الأمر كما قيل فهلُمَّ معنا دليلا، وربيئا، فإنا قاصدو تلك البلاد الظالم أهلها، والمعتدي أصحابها، وسنفتك بملوكها، وزعمائها، ونريهم أن لسنا مستباحي الحمى، ولا هيني الشأن. وإن كان ما وصلنا كذبا، وزورا فأعلِمْنا نعد إلى أجداثنا، ومراقدنا...قال زهير انتسب أولا حتى نعرف من أنت أيها الفتى، فقال الشاعر: أنا يا شيخ؛ أدعى نزار قباني شاعر عربي شامي.
إذن هات حدثنا يابن أخي عنكم، وعن الشعر فإن لنا لشوقا إلى سماع ذلك، فعليه يتوقف مصيرنا، وحالنا، وعاقبة أمرنا.
أخذ نزار قباني يحدثهم، وهم حوله حلق، مشرئبة أعناقهم، ومصغية ألْياتهم وقال: اسمعوا معشر الشعراء، إن الشعر في زماننا معزز، مكرم، مصان، والشعراء سادة، وليسوا أذلاء، وما وصلكم من أخبار ليس على الحقيقة... صحيح أنه مر على الشعر والشعراء زمان كانوا فيه كذلك، ولعل من نقل إليكم هذا الخبر قد بناه على ضعف الشعر في مرحلة ما من مراحلنا، ولكنه الآن في أبهى حالاته.
لقد مر الشعر بعدكم أيها الشعراء بمراحل كثيرة، وتطور حتى وصل إلى حال قد تبدو بالنسبة لكم غريبة، فلم نعد نهتم بالشعر بهيئته التي تركتموه عليها، فقد ظهرت مضامين جديدة، وتغير شكل القصيدة، فلا وجود للناقة، والمرأة، والخمرة في قصائدنا، ولكننا مع ذلك مستمسكون بالشعر من حيث هو؛ لأن فيه تاريخَنا، ومجدنا، وتراثنا، وتخلِّينا عنه يعني انسلاخنا من هُويتنا، وهذا ما لا يرضى به عاقل منا...
فرح الجميع بما سمعوا من نزار قباني، ولكن امرأ القيس لم يرض بكل ما سمع، ولم يبدِ ارتياحا لما قيل؛ فرغم أن الجميع اطمأنوا لحال الشعر إلا أنه رأى في الاعتداء على المقدمة الطللية، وتغيير المضامين، وغير ذلك من التغيرات الفنية التي حدثت للقصيدة جورا، وتعديا، ومع ذلك سكت، ولم يعترض ما دام الشعر، والشعراء بخير.
اقترح ابن زيدون على الشعراء أن لا يقبلوا كلام نزار قباني المريحَ فقط، ولا يركنوا إلى طمأنته إياهم حتى يسمعهم من شعره، لكي يتسنى لهم ـ وهم أهل هذا الشأن ـ الحكم بشكل نهائي ... وافق الجميع على هذا الرأي، وقال كعب بن زهير: تالله ما عدوت الحق يابن زيدون...
أنشدهم نزار قباني قصيدته "قارئة الفنجان"، وما إن بدأ بها حتى خفتَت الأصوات، وحضر مردة الجان المقيمين بعبقر، وتداعى الجن من كافة بقاع الأرض، ورفع النابغة عنقه، وتأوه، وزفر، ثم قال: إيه يا نزار ما أسعدنا بك!
مضى نزار في إلقاء القصيدة على مسامع الشعراء، وهم مصغون مطرقون، ولما وصل إلى قوله فيها:
بحياتك يا ولدي امرأة، عيناها سبحان المعبود.
رِيء أبو أتمام في ناحية المجلس يبكي فسئل ما الذي يبكيك؟ فقال يبكيني أني قلت من الشعر أجوده نسجا، وأحسنه سبكا، وأبلغه بيانا، حتى خلتني تجاوزت السابقين، ولن يبلغ شأويَ اللاحقون، وإذ ببيتِ هذا الفتى يفوق شعري كله، فلو أمضيت كل عمري، وأعماركم لما استطعنا أن نبلغ شسع نعل هذا الغلام، ربت المعري على كتفه وقال صدقت.
أنهى نزار قباني قصيدته، وأعادها مرة بعد مرة بطلب من الشعراء، وحين أنهاها للمرة الأخيرة قام إليه الشعراء مهنئين، وهم فرحون، مطمئنون على مصير الشعر.
وقف الأعشى في الشعراء خطيبا وقال: أيها الشعراء إنكم اجتمعتم هنا لأمر عظيم، وخطر جسيم ؛ فقد ظننتم الشعر مشرفا على الاندثار، وشمسه مؤذنة بالأفول، وهاهو ذا نزار قباني قد حدثكم عن واقع الشعر في زمانه، وأسمعكم من شعره ما به تقر العيون، وتثلج الصدور، والآن ليعدْ كل واحد منكم إلى حيِّه بخير ما يعود به غائب إلى أهله، فرد عليه حسان بن ثابت بل نعود إلى قبورنا، ونمكث فيها حتى يحكم الله، ويبلغ الكتاب أجله.