رؤية النار وهي تلتهم كتب الفقه ويد مَا تمتد إليها بالإسائة منظر لن يمحي من الذهن وجرحه الغائر سيظل طويلا،وكأن حريقا كان يشتعل في قلوبنا ونحن نتابع يدا حانقة تصورُ وأخرى تنظَر وثالثة تستحسن!! والضحية ليست -كما توهم بيران وصحبه-"كبش" العبودية إنما هو تراث فقهي يمثل مرجعية لهذا البلد نص الدستور عليها بمافي ذلك من قدسية شرعية وقانونية!...
وكما قالت إحدى الفتيات المفجوعات بمشاعر صادقة خنقتها عبرة الدموع في إحدى المظاهرات المنددة:إننا نصبر على كل شيئ من الظلم والجور إلا الإساءة لمقدساتنا في وضح النهار...ولم يدر بيرامَ وصحبه أن الذي أشتعل ناحية الرياض ليس كتب الفقه المالكي التي انتشرت في الآماد بل "إيرا" وزعيمها الذي قضى "نحبه" النضالي والحقوقي إن كان أصلا من أهل النضال!. هناك تفسيرات كثيرة لما حدث فمن قائل يقول بأن الحادثة تمثل نهجا شخصيا متطرفا له حظ وافر من الطيش والنزق لزعيم حركة "إيرا" بعد أن تهجم على علماء هذا البلد الأحياء منهم والأموات، وهناك من يرى في الأمر خطة أمنية لإلهاء الرأي العام عن مسيرة الرحيل المزمعة وعن احتجاجات الشارع المتصاعدة ويخشى من صرف الأنظار عن مسار التصعيد المتزايد والبعض الآخر يرى في الحدث بداية لسلسلة كان ذلك أولها، وسواء صح ذلك أو لم يصح فإنه من المهم تسجيل الملاحظات التالية: الإدانة بحجم المدان الإدانة لهذا الإجرام والمنكر الشنيع ينبغي أن تكون قوية وواضحة ومستقلة والاستقلالية هنا تعني أن لاتكون على هامش نشاط آخر أو متضمنة في بيان لشأن آخر-مهما كان- فلاتزر وازرة وزر أخرى، في الوزر وفي التنديد به، ومناكفة الباطل والجور لاتتجزأ ولاتتأجل على أنه من المهم التأكيد على أن التعبير عن تلك الإدانة والاستنكار ينبغي أن يكون عنصر الفعل فيه أقوى من عنصر الزمن،أي أن يكون بحجم مسيرات الرحيل ومهرجاناته دون أن يمتد كثيرا في الزمن كما تخطط لذلك الآلة الإعلامية الرسمية وهي تدشن لتغطية الإلهاء في سنة عجفاء!. التلفزة المغوارة وجدت التلفزة الوطنية المهووسة بالجماهير فرصة نادرة لإظهار "شعبية" السيد رئيس الجمهورية والجماهير تتجه إليه وتلتف حوله وكأنه ناصر السنة ومميت البدعة،إذ يخرج من قصره المنيف بعد أن تغيب عن المسيرة كلها ليعتلى المنصب فجأة -وهو صديق المفاجآت-ليخطب فيهم ويقول في آخر مقولاته أن موريتانيا ليست علمانية وستطبق الشريعة في المخالفين!! فلتطبقها إذن ياأمير المؤمنين وكلنا معك وخلفك ولتبدأ بتطبيق حد السرقة، ولكم ستقطع من أيادٍ ناعمة لم تخشوشن قط! الجدال قائم تعيد الحادثة الشنيعة التي أقدمت عليها حركة "إيرا" الجدال في قضية العبودية وإن بعنوان خطأ هذه المرة وهو مايتطلب جهودا صريحة سواء في الجانب الشرعي أو الاجتماعي لوضع حدٍ لمخلفات الظاهرة ولتسجيل موقف فصلٍ من أهل العلم كافة وتفويت الفرصة على أطراف تقتات "بنضالاتها" وتركب ثغرات موجودة فعلا تحتاج لوقفة جريئة من لدن أهل العلم وليس على طريقة التلفزة كما في ندوتها البارحة حيث بدت مقيدة وكأنها تتجه لفكرة واحدة وتبشر بخطاب جديد لرئيس الدولة. بيان"تواصل" نال حزب "تواصل" حظا كبيرا من الانتقاد بسبب موقفه الذي وصفه البعض بالباهت والبارد ودون المستوى مقارنة مع بيانات أحزاب وهيئات أخرى لاتصر على المرجعية الإسلامية كما هو حال حزب"تواصل"، والذي ينظر إليه البعض نظرة أكثر رحابة وقوة بحكم تاريخه ونضاله وصفته الإسلامية وهو عتب له مايبرره حسب وجهة نظري البسيطة -وأنا تواصلي حتى النخاع- فبيان الحزب يعبر عن موقف فكري يتحيز للرؤية المركبة التي تستحضر السياق ولاتريد أن تستل الحادثة من تداعياتها التاريخية والفقهية ويقدم الحزب بذلك موقفا أقرب للموقف الفكري الهادئ منه إلى تعبير عاطفي حي يناسب فظاعة الحدث ويتجاوب مع مشاعر المسلمين في هذا البلد وهي تحس الإهانة وتنتفض بعنفوان شديد غصبا واستنكارا لما حصل وهو حسب تقديري المتواضع خطأ في الصياغة وفي تقدير الظرف والسياق كان الأولى التنبه له ولايزال متاحا للحزب بحيويته تصحيح ذلك واستدراكه. نحن الآن في مرحلة جديدة لها مآلاتٌ عديدة قد تكون تداعياتها أكبر من الحادثة نفسها إذا لم نتعامل معها بالشرع والقانون والحكمة فعلى النظام الحالي أن لايتاجر بالنار فهي شديدة الإشتعال وقادرة على أن تلتهم الجميع خصوصا من الذين يلبسون سياسات جاذبة للإشتعال! ، كما على المعارضة أن تنظم مهرجانا ضخما للتنديد بوضوح وقوة بماحدث وأن لاتحملها أهداف سياسية آنية على أن تخسر مصداقيتها الأخلاقية والجماهرية فتظل مختبأة خلف تفسيرات معينة فيتخطاها الناس قوة وصدقا ووضوح تعبير..،فنار بيران اشتعلت تعبيرا عن طيش ونزق وحقد لم يتبين طريقا سالكا للنضال مع أن النضال هو الأحوج للوضوح وصدق القضية، لكن قبسا من تلك النار لايزال حيا تتلقفه بعض الأيادي قادر على إشعالها إذا لم تتحيز للشرع والقانون والحكمة والأخلاق، تماما كما اشتعلت النار في زعيم حركة "إيرا" ذات مساء في ناحية "الرياض" قريبا من المقبرة الكبرى!