المحظرة،أو المحضرة على الأصح، إذ هي من الحضور، مؤسسة تعليمية شنقيطية جامعة،هي تاج الموريتانيين، ومصدر علمهم وثقافتهم وعزهم وفخرهم، حيث خرجت جهابذة علمائهم وشعرائهم ومشايخهم، كالعلامة الحارث ولد محنض، والعلامة يحظيه ولد عبد الودود، والعلامة أحمدو ولد محمد محمود، وواحة العلم الشيخ أحمدو ولد فتى، ودرة العلماء حبيب الله ولد مياب، وشيخ العلماء بداه ولد البصيري ...
وبها عرفوا في البلاد الإسلامية قاطبة، في أقصى الشرق وأقص الغرب، في الشمال والجنوب، حتى صار بلدهم شنقيط رمزا للعلم والثقافة والتدين، إذ قارع خريجوها علماء الشرق والغرب، في القيروان، والأزهر، والحرمين، واسطنبول... وغزوهم واحتلوا منابرهم، كالعلامة لمجيدري ولد حب الله، ومحمد محمود ولد اتلاميد، ومحمد سالم ولد عدود... وهل احتيج النهار إلى دليل.
كانت المحظرة والرباط توأمين في حركة عبد الله بن ياسين ، فلم يلبث المعلم أن أذكى روح الحماس بالجهاد في نفوس الملثمين ، وانشغلوا بالجهاد عن التعلم حينا ، ثم عادوا إليه بلهف فكان لهم علماء في عدة حواضر مثل آزوكي وشنقيط القديمة...
وتأسست على العلم حواضر عديدة منها على سبيل لا الحصر: تيشيت ووادان ، واحتضنت ولاته وشنقيط للوح والكتاب ، ثم لم تبدأ الألف الهجرية الثانية حتى كانت البادية تتلقف التعليم المحظري ، وتصل به إلى ذروة مجده وأوج انتشاره.
تٌدرّس في المحظرة جميع العلوم الإسلامية التقليدية من علوم القرآن، والحديث، والتوحيد، والسيرة، وأيام العرب وأنسابها، والفقه وأصوله وقواعده، وعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب ومنطق، وحساب وطب، ويتدرج الطالب في هذه المعارف من مستوى ابتدائي أو المتوسط ، إلى مستوى أعلي في التخصص ، فهي بذلك مؤسسة متكاملة، من الابتدائية إلى الجامعة.
وفيها تًدرس كافة الفئات العمرية والجنسية والاجتماعية ، ويرتادها الفقير والموسر ، وهي لا تسد أبوابها سوى أيام معدودات وتستمر في العطاء على مدار السنين ، كما لا ترد طالبا لعدم وجود مقاعد شاغرة ، أما نقصان عدد منتسبيها أو تزايدهم فذلك تبعا لصيت الشيخ ومدى تفرغه.
وأهم ما يميز المحظرة هو طابعها البدوي ،إذ هي جامعة متنقلة بدوية ، و ليس هذا نكرانا لما كان للحواضر من إشعاع ثقافي ، فقد احتضنت المحظرة أول أمرها ، لكنها ازدهرت وتبلورت شخصيتها في رحاب البادية لا في المدن ، لذلك يقول الدكتور محي الدين صابر: "إن نظام المحظرة نظام يكاد يكون دون نظير ، استنبط من واقع الحياة البدوية".
إن هذه المؤسسة التعليمة المحورية أصبحت مهددة، تهديدا وجوديا، من طرف العولمة، التي استخدمت كافة أسلحتها المعاصرة، لموا جهتها والقضاء عليها، من مدرسة وجامعة، في عالمنا الحقيقي ، إلى جامعات افتراضية ووسائل تواصل اجتماعي ومواقع إلكترونية، في العالم الافتراضي ،لتملأ الدنيا وتشغل الناس بنفسها، وتتفرد بعقولهم وذوا تهم، لا قدر الله .
لذلك فإني أدق ناقوس الخطر ، وأخاطب ضمائر رجال الأعمال ، وفاعل الخير ، والقائمين على الشأن فينا: لا بد من إنشاء محظرة افتراضية، لتواكب العصر ، وتسير في ركب العولمة ليستمر عطاؤها.
إن استنساخ تجربة الجامعات الافتراضية، وإسقاطها على المؤسسة المحظرية أمر ممكن، بل بسيط للغاية، ذلك أن تلك التجربة ليست بتلك الصعوبة التي قد يتصورها أحد ما.
تقوم فكرة الجامعات الافتراضية على اعتماد التكنولوجيا في انتقال المعلومات وتقديم المعرفة للطلاب وربطهم بعضهم البعض، وذلك باستخدام البريد الالكتروني والشبكة العنكبوتية والاتصال الصناعي التفاعلي الثنائي باستخدام برامج الفيديو ذات الكثافة العالية، إذ يكفي وجود مبنى مكون من فصل واحد فيه شاشة كبيرة مربوطة بالأقمار الاصطناعية، يدرس فيه أساتذة في أوقات معينة، ينتسب الطالب عبر الموقع الالكتروني للجامعة، يحتاج الطالب إلى جهاز كمبيوتر واشتراك انترنت، وتقديم رسوم شهرية للجامعة.
يقدم الأستاذ الدرس عبر الشاشة الكبيرة، ويدخل الطلاب على الموقع كل في دولته، يشاهدون الأستاذ يشرح الدرس، فيبدؤون التفاعل بطرح الأسئلة، ومن فاتته المحاضرة، فسيجدها على الموقع.
إن كثيرا من الموريتانين يدرس في المحظرة مبادئ العلوم الشرعية (ما علم من الدين ضرورة)، ثم يهاجر إلى الخارج، ويتوقف تعليمه المحظري تماما، والحال ينطبق على كثير من الأفارقة والمغاربة، وإن إيجاد محظرة افتراضية ستمكن أولئك من متابعة دروسهم الدينية واللغوية كما هي.
إن المحظرة الافتراضية : حفاظ، وتعزيز، وتطوير، وتثمين، لمكسب كبير حققه الأجداد، فضلا عن كونه مشروعا اقتصاديا مكتمل الشروط ، تقدر عائداته بالملايين،إن توفرت متطلباته الثلاث وهي: إعداد دراسة جدوى اقتصادية، ثم إرادة ذاتية، وعزيمة قوية ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.