في مساهمة مقتضبة أردت من خلالها أن أقدم رؤية متأملة و موضوعية بعيدا عن الجدال العقيم من أجل إبراز كنه المقاومة في جوهرها بكل أبعادها وعمقها التاريخي, و لعل الطريقة المثلى لملامسة هذا الاستدراك تتمثل في التدبر و التعقل و وضع المفاهيم في سياقها الحقيقي و الواقعي.
إن الواجب يلزمنا باحترام و تقدير الدور التاريخي لعلمائنا الذين ذاع صيتهم في أصقاع العالم و تثمين الجهود الجبارة التي بذلوها من أجل نشر تعاليم الدين الإسلامي
و التعريف بقيمه و أخلاقه الرفيعة فاتخذوا من ظهور العيس مدارس متنقلة تجوب البلاد فدرّسوا القرآن الكريم و الحديث الشريف و علوم الفقه و العقيدة, كما استطاعوا تمكين روادهم من زمام اللغة العربية بمختلف فنونها, فأنجبت مدارسهم فحول الشعراء و الخطباء و حافظوا علي الهوية و الدين و الخصوصية الحضارية, و أسسوا المدن التاريخية , و هي التي شكلت نقاط تلاق و تمازج بشري و مراكز تبادل تجاري و منارات إشعاع علمي و فكري, و هذا ما ساعد على احتضان و ترسيخ المقاومة و إمدادها بالدعم و التموين بواسطة عائدات النخيل و المحاصيل الزراعية من أجل التخلص من التبعية و الحاجة إلي الغير لضمان الوصول إلى الحرية المطلقة و الاستقلال المنشود الذي هو الهدف الأسمى, و من هنا يتضح أن الدور الديني و الثقافي للمقاومة الوطنية الذي هو ذاكرة الأمة و الحاضنة التي تضمن بقاء و استمرارية هذا الموروث الزاخر و المتنوع الذي أسس للشمولية و اللحمة و تماسك مكونات المجتمع, هو الذي أصدر الفتاوي بوجوب الجهاد و حرمة التولي يوم الزحف و مظاهرة غير المسلم وكان ذلك هو الفتيل الذي أجج الحرب على العدو و استنهض الهمم من أجل الاستعداد للإقدام علي التضحيات بروح عالية و الطموح لتخليد الأمجاد, فاستبسلت المقاومة العسكرية بفضل ذلك الشحن الروحي و المعنوي وانطلقت في هبة جماعية متكاملة بكل أطيافها.
والخلاصة أنه انطلاقا من هذه المعطيات ونحن نتطلع إلي آفاق مقاومة معاصرة في ظرف زمني بالغ التعقيد, لا يمكن فيه الخروج من قوقم الجهل و الإقصاء و التهميش إلا عن طريق امتلاك ناصية العلم و الولوج إلي التكنولوجيا و التقنيات و المهارات, الأمر الذي يتطلب منا الترفع عن الدعوة إلى التمييز السلبي و الكراهية و النظرة الضيقة و الأفق المسدود لتفادي الانزلاق و السقوط في الهاوية, فالمرحلة تتطلب المرونة و الحكمة و العمل من أجل الوحدة و الانصهار و السلوك المدني و الخطاب المنسجم.