التغطية الإعلامية للاستفتاء .. الانحياز المتبادل / د.أحمد سالم فاضل

منذ مدة وأنا تراودني فكرة الإطلال على القراء بشكل منتظم، أو شبه منتظم، من خلال نشر بعض الملاحظات، والقراءات التي تبدو لي فكرة مشاركتها مع الجمهور أفضل من حبسها بين جدران دفتر الملاحظات، أو الاقتصار في نشرها على أعزائي من طلبة الإعلام في المؤسسات الأكاديمية، أو تركها تضيع في زحمة مشاغل الحياة.

وهي ملاحظات ذات طابع فني أردت مشاركتها مع زملائي الإعلاميين في الميدان، 

ليس استعلاء ولا أخذا لموقع الأستذة أو التدريس لهم، وإنما تبادلا للإفادة والاستفادة، من أجل الرقي بصاحبة الجلالة، وعلاج الاختلالات التي تقع نتيجة الفعل الإعلامي المتسارع، وجسرا للهوة بين الدرس الأكاديمي والقائمين عليه، وصناع الإعلام الميدانيين، وسفرائه نحو الرأي العام.

وقد تكرر طلب بعض الإخوة أن أدخل عالم الكتابة، فقررت التوكل على الله، واقتحام هذا الميدان، ونقل ملاحظاتي إلى الجمهور الواسع، لتكون إسهاما في النقاش الذي لا يتوقف بشأن العمل في مهنة تقتصر علاقتي بها على التدريس الأكاديمي، والمتابعة، ولم أحظ بشرف ممارستها.

حظي الاستفتاء الدستوري والحملة الممهدة بتغطية استثنائية، وهو أمر له ما يبرره نظرا لحالة الانقسام غير المسبوقة التي جرى فيها من جهة، والتي جعلت الطرفين الأساسيين في الساحة السياسية يلقيان بثقلهما في الحملة. والمقصود طبعا هو الأغلبية ممثلة في رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز، وتنسيقية المعارضة السياسية التي تمثل المنتدى والتكتل وبعض القوى السياسية الأخرى.

الانتخابات ومزالق الانحياز
تعد تغطية الانتخابات والاستفتاءات من أكثر التغطيات صعوبة نظرا لأن المواقف السياسية تبلغ حدتها لدى الأطراف المختلفة بما فيها الصحفي، والمتلقي. فالصحفي يعمل في شبكة من الانحيازات، التي تضعه تحت مجهر الأطراف المختلفة؛ فهناك السياسيون الذين يعبرون عن مواقف حدية من خصومهم، ويطالبون الإعلام بنقلها حرفيا، وفي بعض الأحيان تصاغ هذه المواقف في شكل اتهامات، وتحريض، ولا يتاح الكثير من الفرص أمام الصحافة التي تسابق الخبر لغربلتها، ويتأكد الأمر إذا كانت هذه المواقف تأتي أثناء نقل مباشر.

ومن جهة هناك المتلقي الذي يتابع هذه المواقف وينتمي جزء منه للطرف المقابل، وسرعان ما يتهم وسيلة الإعلام بأنها منحازة للطرف الذي نقلت خطابه. وعندما يكون أحد الأطراف أكثر حضورا إعلاميا، وأفضل في تعاطيه مع الصحفيين فإن أزمة الصحفي تتضاعف.

وقد زاد كل هذا حضور ناقدين غير محترفين في وسائل التواصل الاجتماعي التي حولت كل مشاهد إلى ناقد للمحتوى الإعلامي، وهو ما ضاعف من أزمة الصحفي الذي يحاول أن يتمسك بحد أدنى من المهنية والمصداقية.

إن هذه المنزلقات تضع الصحفي على محك حقيقي، فهو في بيئة كلها منحازة، إذا انخرط معها في الانحياز فقد المهنة، وإن ظل وفيا لمهنته تناوشته الألسن واتهمه كل بالانحياز للآخر.

إن كل طرف يزعم أنه يقف في جانب الوطن وأن الآخرين نفعيون، والانحياز المبدئي يجب أن يكون للوطن، ولا يقبل أي من هؤلاء أن الوطن المجرد لم يعد موجودا، وإنما الموجود هو أوطان بعدد المواقف السياسية.

لا حل أمام الصحفي في مثل هذه الحالة إلا التمسك بالحياد المطلق، وتمحيص الوقائع قبل نشرها، وفتح الطريق لكل المتحدثين، دون التفات لأي نقد يوجه إلى مبدأ الحياد، فالمكسب الحقيقي للصحفي المهني هو أن يتابعه الجميع، وهم يعرفون أنه ليس ملكا لهم.

إذا نظرنا إلى التغطية الإعلامية للاستفتاء من هذه الزاوية، أي زاوية عدم التحيز فإننا نجد أنه لم تنجُ وسيلة إعلامية على مستوى البلد كله تقريبا، في حدود ما أتيح لي أن أتابع شخصيا، من انحياز بدرجة من الدرجات، ولا شك أن وسائل الإعلام العمومية قد حازت قصب السبق كالعادة في الانحياز المطلق لوجهة نظر السلطة وكرست كل برامجها ونشراتها تقريبا للدعاية للتعديلات الدستورية.

ولم تبخل وسائل الإعلام المحسوبة على المعارضة على الجانب الآخر فخصصت مساحات واسعة لتغطية الأنشطة المناوئة للتعديلات الدستورية، ومارست دعاية مباشرة وغير مباشرة لوجهة نظر المعارضة.

لقد عكس الإعلام حالة الاستقطاب السياسي في البلد، وهذا مفهوم، وقد يكون مبررا، إلى حد بعيد، لكن الأصل أن تعكس وسائل الإعلام الاستقطاب في تغطياتها وبرامجها، لا أن تنخرط هي في الاستقطاب، وتكون بالتالي جزءً من أدوات المتنافسين بدلا من أن تكون شاهدا موثوقا على أفعال المتنافسين ومواقفهم، وحافظا للذاكرة الوطنية.

الخلط الخطير
إن أخطر ما عرفته الحملة الماضية هو خلط المعلومة بالرأي السياسي، والانتقاء الفج للمعلومات التي تخدم وجهة النظر التي يدافع الصحفي أو وسيلة الإعلام عنها، في حين كان ينبغي إفراد المعلومات المجردة بمساحة خاصة بها، وعدم التشويش عليها بالآراء والتحاليل، والتوازن في تقديم وجهات النظر المختلفة من خلال بعض المراقبين الأقرب إلى الحياد.

وقد يكون من أسباب هذه الظاهرة السيئة في إعلامنا الوطني الخاص هو تولي صحفيين مسؤولية التحليل السياسي إلى جانب وظيفة الإخبار، وهي ظاهرة خطيرة قد تؤدي إلى تخليط شديد في الوعي، لأن المتلقي يتعود على التعامل مع الآراء، ويكون لديه موقف سلبي من أي مؤسسة تقدم المعلومة مجردة والعزوف عنها، وبالتالي عدم تنمية ملكة النقد لدى المتلقي بشكل صحيح، وهو ما يعني أن الإعلام في المستقبل لن يكون مصدرا للمعلومات وإنما للآراء والمواقف، وهو ما يهدد أهم وظيفة من وظائف الإعلام الإخباري، وهي الإخبار.

هذه ملاحظة عامة تتعلق بجزئية الحياد، وقد اخترت الابتعاد عن تسمية وسائل الإعلام، لكن القارئ يدرك من الإشارات التي وردت، وما يهم هو الوعي بالفكرة مجردة وترك إسقاطها للقارئ الفطن.

بقيت وسائل التواصل الاجتماعي وقد لعبت دورا رئيسا في نقل الأخبار، والتعليق عليها، وسأحاول أن أخصص لها مقالا لاحقا بحول الله.

الدكتور أحمد سالم فاضل

- أستاذ الاتصال ونظريات الإعلام في جامعة العلوم الإسلامية بالعيون

21. أغسطس 2017 - 12:04

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا