بسم الله الرحمن الرحيم
التجريم السياسي في موريتانيا
(الحلقة الثانية من تلبس القانون بالسياسة في موريتانيا)
ليس التجريم - الذي يلغي البراءة وربما أدي لتقييد الحرية - عملية قانونية بحتة وإنما هو مسعى مختلط لا يخلو من تدخل سياسي.. فلكل من سلطات
الدولة الثلاث فيه يد ذلك أن تحديد الأفعال التي تعتبر جرائم داخل في نطاق القانون الذي يعد التصويت
عليه من صلاحيات السلطة التشريعية إلا أن أغلب مبادراته وتحضير مشاريعه يتم بعناية السلطة التنفيذية أو تحت إشرافها أما التجريم بمعنى الإدانة وإسقاط النصوص على الوقائع فمن اختصاص السلطة القضائية التي تتعهد في المساءلة.. ولكن هذه الخلاصة النظرية تحجم دور السلطة التنفيذية المتحكمة في موريتانيا والتي لا يخفى على مطلع بأنها لا تكتفي بوضع مشاريع التجريم وإنما تتجاوز التحضير بالوصاية على
البرلمانيين وتوجيه تصرفات القضاة.
وتعالج الحلقة الثانية من تلبس القانون بالسياسة في موريتانيا موضوع
التجريم السياسي بتناول مقتضب للضوابط الأخلاقية والقانونية النظرية
للتجريم (1) وبذكر أحد القوانين الوطنية التي تكرس هذه الظاهرة (2)
وباستعراض تبعاته الماثلة في مأساة بعض المدانين (3) قبل التنبيه على
التوسع الوطني الطارئ في التجريم والعقاب وخطورته وضرورة التفكير في
سياسة جنائية أكثر توازنا وعدلا (4) ونختم الحلقة باستعراض فوائد علنية
الجلسات القضائية وأهمية تفعيلها الذي يتطلب ولوج وسائل الإعلام لقاعات
الجلسات (5).
1.
تتطلب طمأنينة الجماعة حماية الأنفس والأموال والأعراض وحفظ النظام ولذلك
جاءت الشرائع بعقاب أفعال القتل والسرقة والإغتصاب والتمرد واعتبارها
جرائم كونية معيقة للتجمع.. وفي مقابل هذه الجرائم البشرية العامة توجد
جرائم محلية مبناها العقيدة والقيم السائدة في مجتمع ما.. وفي كل الحالات
يجب أن تتناسب العقوبة مع الفعل فلا يستساغ أن يحقن المجتمع جرعة عقوبة
كبيرة لعلاج من ارتكب فعلا لا تنكره الفطرة بالقدر الذي تنكر أفعالا لا
يستفيد مرتكبها من أي علاج وبناء على ذلك تتدرج الجرائم بحسب عقوباتها
وتتخذ شكل هرم تتشكل قاعدته العريضة من صغائر دارجة تتعامل معها الشرطة
القضائية غالبا بالتغاضي والتسوية بينما ينهمك الوسط القضائي في التعاطي
مع الجنح التي تشكل الشغل اليومي للنيابات العامة والمحامين والمحاكم وفي
قمة الهرم جنايات موبقة يتعين أن تلفت انتباه المجتمع لطبيعتها
الإستثنائية.. ولئن كان الضابط قد يختل فإن الأخلاق تبقى المصدر الأصيل
للتجريم والعقاب.
ومن المنظور التشريعي يدخل تحديد الجرائم وإقرار عقوباتها في مجال
القانون طبقا للمادة 57 من الدستور الموريتاني وقد صففت أغلب الجرائم
المقررة وطنيا في منظومة تسمى قانون - أو مدونة أو مجلة - العقوبات التي
تم إقرارها بموجب الأمر القانوني رقم 162- 83 الصادر عن اللجنة العسكرية
للخلاص الوطني بتاريخ 9 يوليو 1983 الذي يحمل توقيع رئيسها المقدم محمد
خونا ولد هيداله وثمة قوانين جنائية شاردة يتم إقرارها من فترة لأخرى
يتعين انتهاز فرصة المساعدة التي يجود بها الشركاء لتمحيصها وجمعها في
مصفوفة عقابية واحدة حتى تتيسر لجميع المهتمين الإحاطة بالقانون المشتت..
أما المسطرة الشكلية للتعامل مع الجرائم فقد تمت مراجعتها في ظل المجلس
العسكري للعدالة والديمقراطية الذي أعد الأمر القانوني رقم 2007-036
المتضمن قانون الإجراءات الجنائية، وأصدره رئيسه العقيد اعل ولد محمد فال
بتاريخ 17 ابريل 2007.
ولكي لا يتمدد التجريم ويعم حدد الفقهاء ثلاثة أركان يتعين تضافرها في
الفعل حتى يكون مجرما: ركن مادي يتمثل في فعل واقعي محسوس.. وركن معنوي
يتجسد في اتجاه الإرادة لارتكاب الفعل ونتيجته أو أحدهما ويسمى "القصد
الجرمي".. وركن شرعي هو النص القانوني الذي يقرر التجريم والعقاب وعلى
ضوء الأركان الثلاثة للجريمة يتأمل القضاة في مستوى المسؤولية ويكيفون
الأفعال المحالة إليهم ويقررون ما يتخذون في شأنها مع التنبيه إلى أنه لا
يجوز للقاضي، طبقا لقانون الإجراءات الجنائية الموريتاني، أن يأمر بالحبس
الإحتياطي إلا لخطورة الوقائع أو المنع من إخفاء الأدلة أو للخوف من هروب
المتهم أو للخشية من ارتكاب جرائم جديدة (م 138 من معروف الإجراءات
الجنائية الموريتاني).. وباعتبار وجوب توفر الركن المعنوي لقيام الجريمة
قسمها البعض إلى جرائم جنائية تنبني على إرادة العدوان يتوجب عقاب
مرتكبها وجرائم مدنية مناطها الخطأ الذي تنحصر عقوبته في إصلاح الضرر
الناجم عنه (من أمثلة ذلك أن عقوبة القتل الخطأ هي الدية طبقا لما ورد في
المادة 295 من معروف العقوبات الموريتاني).
وتتعدد تسميات "مراجع التجريم" في موريتانيا وتتخذ عناوين عديدة، ابتدع
المشتغلون بالقضاء بعضها، فقد تسمى قانونا أو مدونة وحتى مجلة وهي
اصطلاحات رادف بينها الإستخدام العملي ولم تبذل السلطات العامة جهدا
لتوحيد تسمياتها العربية بعكس الحال في اللغة الفرنسية التي تجمعها كلها
تحت تسمية "كودات" Codes.. ولذلك وحرصا على البعد الأخلاقي الأساسي في
التشريع أقترح هنا توحيد هذه المصطلحات، فكما سمت الدولة العثمانية
قانونها فرمانا ويسميه المغاربة ظهيرا، أقترح على الموريتانيين توحيد
عبارات (قانون، مدونة ومجلة) والإستعاضة عنها بمصطلح "المعروف" وأبرهن
على وجاهة اقتراحي بتجريب اعتماده عمليا في فقرات هذه المعالجة.
وبعكس التجريم الذي تمليه الأخلاق وتقتضيه ضرورات الإجتماع البشري والذي
على أساسه وبموجبه يحاسب من يرتكبون أفعالا شاذة وضارة بالمجتمع قد يكون
التجريم السياسي تشريعيا ولذلك السبب نستدعي أحد القوانين لمساءلته أمام
الرأي العام عن جرائم شاذة يطغى بعدها السياسي على البعد الأخلاقي كما قد
يكون التجريم السياسي قضائيا بتأويل مفاهيم التلبس والحصانة في الحالات
الفردية التي ستكون مدار معالجة قادمة.
2.
من أحدث النصوص الجنائية الموريتانية القانون رقم 2010-021 الصادر بتاريخ
15 فبراير 2010 المتعلق بمكافحة تهريب المهاجرين غير الشرعيين (وأحجب عنه
تسمية المعروف التي أتمسك بملكيتها الفكرية) الذي نشر في عــ
1214ـــــــــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 30 ابريل 2010 وهو قانون
استثنائي يذكر البعض أنه نتاج التفاهمات التي اكتنفت الإعتراف الأوروبي
بانقلاب أغشت 2008.. لست متأكدا ولكن من الجلي أن هذا القانون الذي يستند
على خلفية سياسية، بعكس نصوص التجريم ذات الجذور الأخلاقية، تضمن عقوبات
حطمت الحدود القياسية وقرر استثناءات غير مقبولة على معروف الإجراءات
الوطني ولذلك أعتقد أنه مرر على حين غفلة من الحقوقيين وأشك فيما إذا كان
البرلمانيون ناقشوا فحواه ولذلك أدعو كل من يهمهم الأمر من سلطات وهيئات
مدنية للعمل على مراجعة عقوباته التي تصل إلى عشر سنوات سجنا وغراماته
التي تبلغ عشرة ملايين أوقية وتسلط غالبا على الفقراء (المادة 4) كما
أدعو لإعادة النظر في تقييده لمعروف الإجراءات الوطني بإلغاء ما تضمنه من
منع وقف تنفيذ العقوبات الذي تخوله الإجراءات للقضاة في حالات معينة
(المادة 33) وحسبكم أن عقوباته تتجاوز الحدود المقررة لاستخدام السلاح ضد
القوة العمومية أما غراماته فمن أرفع ما يقرره معروف العقوبات لأنها قد
ترتفع إلى مائة مليون أوقية (المادة 13).. ولأن المقصد الأول من قانون
مكافحة تهريب المهاجرين هو منع جياع الجنوب من التطفل على موائد الشمال،
يمكن أن نحكم بأن هذا القانون يشجع الشح ويفتقد للأساس الأخلاقي وبناء
عليه حكم على شباب في مقتبل العمر بسجن لا يتوقع خلاصهم منه.. وكي لا
أبقى محلقا في الفضاء النظري أقترح على القراء شد الأحزمة لأننا سنهبط في
ساحة الواقع لزيارة بعض ضحايا هذا القانون الإستثنائي.
3.
عندما طالعت ملف محجوب وتعهدت لأسرته بالدفاع عنه حسبت أمره سهلا هينا
فسرعان ما عثرت على حجج اعتقدت أنها كافية لإقناع المحكمة بإطلاق سراحه
فتهمته لا تتعلق بنشاط احترافي منظم في التهريب ولا بشبكة عابرة للحدود
والوقائع المذكورة في ملفه هي مساعدة مجموعة من المواطنين السوريين على
التسلل من انواذيبو في اتجاه المملكة المغربية مرورا بالصحراء الغربية
ومما يضعف التهمة أن المتسللين مروا بنقاط التفتيش الأمنية التي يعسر على
الخارج من انواذيبو أن يتجنبها.. حصلت على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة
بوضع اللاجئين لسنة 1951 ووقفت على ما يثبت انضمام موريتانيا إليها سنة
1978 بعد المغرب الذي انضم سنة 1956.. وكنت مسلحا بما يكفي عندما نادت
المحكمة الجنائية في انواذيبو على المتهمين.. تبينت أن المواطن المغربي
فراحي المشمول في نفس الملف مع موكلي بذات التهمة لم يتمكن من تأمين
دفاع، بالنظر لضيق ذات اليد، واعتبارا لعدم تعارض دفاعه مع مصلحة موكلي
فقد تطوعت بمؤازرته.. تركزت خطتي في الدفاع على إقناع المحكمة الجنائية -
المشكلة من خمسة أعضاء (ثلاثة قضاة ومحلفان) يتخذ ثلاثة منهم القرار بعد
اقتراع سري - بأن المعاهدات الدولية المصادق عليها أسمى من القانون (م 80
من الدستور) وأن اللاجئ في مفهوم القانون الدولي لا يعد مهاجرا غير شرعي
وبالتالي فإنه غير مشمول بإجراءات محاربة الهجرة بل على العكس يستحق
اللاجئ الرعاية والإهتمام الدوليين وأردفت بأن السوريين، فرج الله
كربتهم، لاجئون بامتياز طردتهم الحروب الطاحنة من بلاد الشام وأنهم
يستحقون إكرام العرب لأن معابرهم كانت مفتوحة دون قيد أو شرط أمام كل
المنتمين للدول العربية.. وبينت أن الرفقة السورية وإن كانت متجهة إلى
الشمال في عصر الهجرة إليه إلا أن خط مسارها الذي توبع بسببه موكلاي كان
بين حيين عربيين (موريتانيا والمغرب) وأنها لم تكن قد شدت الرحال إلى
حدود المملكة الإسبانية المحروسة.. استشهدت بقول الله سبحانه وتعالى " هو
الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"
الآية 15 من سورة الملك وتناولت ما ورد في تفسيرها قبل أن أعرج على
المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولم أنس أن أثير حرية التنقل
المضمونة بموجب المادة 10 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية وأن
أستشهد بأبيات من الشعر.. وتناولت المادة 4 من قانون مكافحة الهجرة، التي
تم التكييف على أساسها، لأبين أنها تتضمن عبارة "يمارس" التي تفيد
الإعتياد والتكرار ونبهت إلى أن المنطقة التي دخلها اللاجئون، وأرجعتهم
القوات المغربية منها، موضوع نزاع في السيادة بين المملكة المغربية
والجمهورية الصحراوية كما يعلم الجميع.. واجتهدت لتقديم وسائل الدفاع
شفهيا وضمنتها في مذكرة مكتوبة.
ولأني كنت أعتقد بأن حججي مستساغة وأن مرافعتي كانت ناجحة توقعت الفرج
لدرجة أنني كنت أتمثل الفرحة المحتملة للشابين عندما يتقرر إطلاق
سراحهما.. ولكن المحكمة خيبت ظني بإدانتها للرجلين بخمس سنوات ثلاث منها
نافذة وبحكمها على كل منهما بغرامة خمسة ملايين أوقية وقد تجري الرياح
بما لا تشتهي السفن.. طعنت بالإستئناف وقدمت أمام محكمته مرافعة شفهية لم
تكن دون سابقتها وتقدمت بمذكرة مكتوبة فأعادت الهيئة الخاصة (المشكلة من
خمسة قضاة) الكرة وأكدت الحكم القاسي الذي أصبح نهائيا.
مشاهد الإدانة الجنائية تذكرني بمقطع مستعذب كتبه القاضي الفرنسي Serge
Fuster (CASAMAYOR علما) ترجمته:
" تتجلى ظاهرة السلطة للشعب بوضوح تحت السقوف المزركشة للمحاكم
الجنائية.. قد تعكس الإستعراضات العسكرية مشهد القوة ولكن ذلك يظل
تقريبيا فمهما كان التشكيل العسكري في كامل عدته إلا أن استعراضه لا يخلو
من لمسة تمثيل لأن العدو غائب أما الجلسات القضائية فتعكس الصورة الزجرية
كاملة لأن المشهد في قصر العدل حقيقي ومكتمل: قاض وخصم يتقابلان وجها
لوجه فيظهر الأول قوته بإدانة الثاني..".
وتوخيا للدقة ولأن تعبير الكاتب بلغته الأصلية قد لا تعكسه الترجمة
كاملا، أورد العبارات، لقراء اللغة الفرنسية، كما نقلت من المصدر:
« .. C’est sous les lambris et les ors des cours criminelles que le
phénomène du pouvoir s’expose à la nation de la manière la plus
voyante.. Seuls les défilés militaires donnaient le spectacle de la
puissance mais n’en présentaient que la face tutélaire tandis que
l’audience judiciaire en montre la face répressive. Un régiment qui
défile, même en grande tenue, n’est jamais qu’une partie du jeu. Il
manque l’ennemi. Au contraire, la démonstration qui se déroule dans le
palais de justice est complète : magistrat et accusé sont face à face
et le premier montre sa force en condamnant le second..».
وبالرجوع لأسباب الأحكام الصادرة في حق محجوب وفراحي وجدت أن محاكم الأصل
لم تناقش وسيلة الدفاع الرئيسية المتعلقة بالفرق بين اللاجئ والمهاجر غير
الشرعي ولم تذكر المعاهدة الدولية ومركز السوريين.. وربما لم ينتبه قضاة
الحكم إلى أن في الملف ما يثبت أن قاضي التحقيق، قبل أن يحيل الملف
للمحكمة الجنائية، أمر بالإفراج عن كلا المتهمين لقاء كفالة بمبلغ خمسة
ملايين أوقية على كل منهما وأن غرفة الإتهام على مستوى الاستئناف أكدت
الأمر ولكن الفقر والعجز عن تأمين المبلغ منع الرجلين من خروج السجن إلى
أن أدركتهما الإدانة التي قد تكون في حكم المؤبد.
وفيما عدا صاحبي السجن أدين (لكور) بسنتين نافذتين وبغرامة خمسة ملايين
أوقية بسبب وقائع ملخصها أن أحدهم أودع عنده قنينات من الوقود.. وتم
تأكيد الحكم ولذلك يوجد الشاب الثلاثيني في سجن انواذيبو بينما لا تفتؤ
أمه تتردد على المحاكم أملا في الإفراج عنه بعد أن دنا انقضاء محكوميته
دون أن تدرك الوالدة أن إطلاق سراح وحيدها غير محتمل في المستقبل المنظور
لأنها تجد صعوبة في تأمين قوتها وعلاج زوجها المصاب بمرض خبيث في مراحل
متقدمة فأنى لهما بخمسة ملايين أوقية.. ومن المؤلم في هذه الظروف القاسية
أن يواكب الشخص سعي أقارب الأسرة الصغيرة إلى طريقة تكفل رؤية الوالد
الممدد على فراش المرض لوحيده القابع في السجن.. إن إدانة معدم بغرامة
خمسة ملايين أوقية قد تكون بمثابة حكم بالسجن المؤبد لأنه لا حيلة له
لتأمين المبلغ الكبير لو كان خارج السجن فكيف به في غيابات الجب؟
قد يجد مساجين انواذيبو عزاءا في الطقس المعتدل وقلة البعوض الذي يحسدهم
عليه نظراؤهم المحولون إلى بئر أم اكرين وألاك ولكن مقيد الحرية لا يطمئن
لذلك فقد شيدت بعض السجون الفظيعة في مناطق ذات مناظر خلابة إلا أن الظرف
المكاني لم يمنعها من أن تكون عنوانا للقسوة ولذلك أثمن كون طفرة تشييد
السجون وإعمارها، التي شهدها البلد في السنوات الأخيرة، لم تسفر عن تشييد
محبس في شنقيط أو باسمها.. ولن أتوسع هنا في موضوع السجون فحسبي أن أحيل
إلى مقالين نشر أولهما في مارس 2015 تحت عنوان: "واجب التبيين.. لتعسف
نفي المحبوسين إلى بير أم اكرين" ونشر الثاني في مارس 2016 تحت عنوان:
"غيوم الوقاية من التعذيب في موريتانيا" وإلى أنني كتبت في المقال
الأخير، قبل تعيين الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، فقرة أوردها بدون
تصرف: "يتعين انتهاز الفرصة لتحمل الهيئة المرتقبة ريحا طيبة للمنظومة
العقابية في موريتانيا مما يوجب الإجتهاد في اختيار أعضاء الآلية بتوخي
توفر مواصفات خاصة تتيح رسم إستراتيجية واضحة لتغيير ظروف المساجين
ومقيدي الحرية وتحسين وجه موريتانيا فالتعسف لا يخدم بلدا. ينبغي أن يدرك
الجميع بأن اختيار هيئة وديعة "تسير جنب الحائط" تستشير الرئيس أو مدير
الديوان و"تشتم رائحة فم" وزير العدل أو النائب العام وتشعـر الولاة
وقادة فرق الدرك في الداخل بقدومها سيكون إيذانا بفشل المهمة وإخفاق بلد
برمته.. مسايرة الركب الدولي تتطلب أن تكون اللجنة مستقلة في الواقع،
مطلعة، ناصحة، حيوية ويقظة مما يوجب تشكيلها من خبراء مرفوعي الرؤوس،
عارفين بالمساطر، جديرين بالثقة وقادرين على التأثير في واقع مقيدي
الحرية." وأترك للقارئ أن يحكم بنفسه على حصيلة عمل الآلية.
زرت صاحبي السجن مؤخرا كانت لحية فراحي قد طالت بعد لقائنا الأخير
فأكسبته وقارا إلا أن منظر الرجل الطويل الوسيم وقد احدودب ظهره وهو يتكئ
على عصا ويئن جراء آلام في عموده الفقري كان مثيرا للشفقة.. انزويت
بموكلي (لأن محبس انواذيبو لا يضم مكانا مخصصا للدفاع) فأكد لي فراحي،
مجددا، بأن طبيب السجن صرح بأن وضعه الصحي يتطلب عملية جراحية حساسة
وسلمني الميكانيكي الأربعيني المولود في اخريبكه رسالة من عدة صفحات
وعلمت، في غيابه، أنه كثيرا ما سهر وبكى من فرط الألم.. أما محجوب فرغم
القروح الشديدة في يديه وقدميه، جراء عدم تعرض جسمه لما يكفي من أشعة
الشمس، فقد كان أفضل حالا من زميله لأن زيارة ذويه ترفع معنوياته كما أن
مددهم المادي يشكل سندا مهما له بعد أن فرقت الظروف بينه وبين سيارة
المرسيدس 190 التي كان يستخدم في نقل الركاب.. حاولت رفع معنويات الرجلين
مستخدما بعض الأماني التي أقتنع بأنها لا تخلو من تضليل فلم يكن في جعبتي
أمل محسوس لأنني أدرك بأن أسباب الرجلين ضعيفة وقد علمتني الممارسة
القضائية، على مدى ربع قرن، أن لا أعول على النقض الذي يسمح بإعادة
المحاكمة ولذلك منيتهما بعفو رئيس الجمهورية الذي لم أجربه.. وسرعان ما
أنهى إلحاح الحراس المقابلة فعدت إلى مكتبي وقرأت الصفحات الأربع التي
سلمني فراحي واكتشفت أنه ضمنها أسباب براءته ولخص فيها شعوره بالظلم وما
ينعيه على محضر الشرطة المعنون بمحضر تلبس المعيب في نظره والناقص في
تقديري.. أخذني الفكر إلى مساءلة نفسي عن ابنتيه وزوجته من تراه يقوم على
شأنهن وماذا لو حدث له مكروه.. وبينما أرجح أن الرفقة السورية التي كانت
السبب في إدانة الرجلين قد بلغت الآن مستقرها في الشمال يقبع محجوب
وفراحي في سجن انواذيبو ولا بد أن نزلاء السجن، الذي يتوسط الأحياء
السكنية، سيشعرون بالضجر بعد أن سكت الصخب المنبعث من خيام حملة
التعديلات الدستورية.
4.
كانت المحاكم الجنائية فرصة لتنزل الرحمات لأن القضاة كانوا يجدون في
الغالب سبلا لتبرئة المتهمين أو التخفيف عنهم وعندما تعلن الأحكام يفرج
عن الكثيرين وينسحب القضاة مسرورين بتحويلهم لقاعة الجلسات إلى ساحة
أفراح وكان المحامون يفلحون في إطلاق سراح المدانين بالحدود (كالقطع
والجلد) ومنع مبيتهم في السجن بعد الحكم.. حتى النيابة العامة كانت
متسامحة ولم تكن تحرص على تقييد حرية المدانين بسبب الغرامات ولذلك لم
تكن حافلة السجن تعود إليه غالبا إلا بآحاد وإن قدمت مكتظة.. أما الآن
فقد تغير الوضع جذريا وأغلقت الأبواب وأصبح التخفيف استثناءا والتقييد
قاعدة ولذلك تزدحم السجون رغم زيادة عددها لدرجة أنه رغم إلحاح المحامين
في انواذيبو، لم تجد السلطات سبيلا لتخصيص قاعة يقابلون فيها نزلاء
المؤسسة الحديثة.. وقد نقلت المواقع الإخبارية مؤخرا أنه رغم انقضاء
محكومية بعض المدانين إلا أنهم ظلوا في سجن روصو بسبب غرامات مادية حتى
دخل معهم السجن السيناتور محمد ولد غدة فسدد المبالغ وكان سببا في
الإفراج عن بعض المعدمين.
ومن قرائن التشدد صدور حكم بالسجن ثلاث سنوات نافذة في حق شاب رشق بحذائه
وزيرا لم يكن يباشر مهامه الرسمية في الإقتصاد والمالية وإنما كان بصدد
الدعاية للتعديلات الدستورية خلافا لوزير الثقافة الناطق الرسمي باسم
الحكومة الذي استهدف سابقا أثناء مؤتمر صحفي.. ومن أسباب استهجان
الكثيرين لهذا الحكم أن مثل هذا الرشق أسلوب احتجاجي شائع في الدول
الديمقراطية التي تتكرر فيها مشاهد وجوه السياسيين ملطخة بالطين وأثوابهم
محلاة بأصفر البيض دون أن تتبع ذلك إدانة قضائية بالحبس مدة معتبرة.. حتى
منتظر الزيدي الذي هز العالم عندما رشق بحذائه الرئيس الآمريكي جورج بوش
ببغداد يوم 14 دجنبر 2008، وإن أدين بالسجن ثلاث سنوات، بتاريخ 11 مارس
2009، إلا أن إدانته كانت قابلة للتمييز وبعد أقل من شهر، قلص القضاء
العراقي مدة حبسه إلى سنة واحدة (بتاريخ 7 أبريل 2009) ولم يكمل الزيدي
حولا كاملا في السجن.
وثمة قرائن على أن التشدد الطارئ راجع لقناعة سياسية لدى القيادة الحالية
منها تصريحات رئيس الجمهورية، أوان تسلمه للسلطة، وتشييد الدولة للسجون
الكبرى "ألاك، بئر أم اكرين وانواذيبو" وحرص السلطات على إعمارها الذي
يترجمه تشدد قضاة النيابة العامة المحسوبة على السلطة التنفيذية. ومن
القرائن القوية "تأديب" قضاة المحكمة المنعقدة في ازويرات الذين بتوا،
خلال شهر نوفمبر 2016، في استئناف حكم متهمي "كزرة بوعماتو" بعد أن أحيل
إليهم النظر في الملف المتعلق بتخريب الممتلكات واستخدام العنف ضد القوة
العمومية: فقد كان الحكم الإبتدائي الصادر، يوم 17 أغشت 2016، عن محكمة
جنائية في انواكشوط قد حكم على المتهمين بأحكام قاسية لا تتناسب، في
تقديري، مع درجة خطورة الأفعال المنسوبة إليهم فقد أدان أربعة متهمين
بالسجن خمس عشرة سنة (15) وستة بالسجن خمس سنوات (5) وثلاثة بالسجن ثلاث
سنوات (3).. وطلبت النيابة تغيير مسار الملف بإحالته لمحكمة استئناف
انواذيبو "لتتم محاكمة المتهمين بعيدا عن ضغوط العاصمة وفي دائرة سجن بئر
أم اكرين!!" فأجابت المحكمة العليا طلب النيابة كالعادة ولم تعتبر
اعتراضات الدفاع.. وعقدت الغرفة الجزائية الخاصة بمحكمة استئناف انواذيبو
(المشكلة من خمسة قضاة) جلسة في ازويرات لإعادة محاكمة المتهمين وأصدرت
أحكاما أكثر قسطا كان أشدها السجن خمسة أعوام على متهمين اثنين أما
الباقون فكانت عقوباتهم في حدود سنة واحدة قررت المحكمة وقف تنفيذها عن
بعض المتهمين وبرئ آخرون.. وقبل انقضاء شهر نوفمبر الذي صدرت الأحكام بعد
انتصافه التأم المجلس الأعلى للقضاء، يوم 30 نوفمبر 2016، وقرر تحويل جل
قضاة استئنافية انواذيبو إلى مناطق نائية مما تعتبره الأسرة القضائية
تأديبا بمثابة إنذار فحواه أن من تسول له نفسه تخفيف العقوبات يجب عليه
أن يحزم أمتعته استعدادا لتحويل تأديبي إلى أكثر المقاطعات بعدا عن
العاصمة وربما إلى بئر أم اكرين.. وعلى ضوء ما ذكر يحق للمواطنين
الموريتانيين أن يتساءلوا عن الخلفية الفكرية التي ينبني عليها تشديد
العقوبات وحساب السلطات لما يمكن أن يجنيه المجتمع من ذلك النهج؟
5.
شهدت مدينة انواذيبو إحدى أشهر محاكماتها، في تسعينات القرن المنصرم،
عندما تمت متابعة العمدة والأمين العام للبلدية ومدير الخزينة الجهوي
وغيرهم بتهمة تبديد المال العام وكما هو حال تهم اختلاس كبار الموظفين
وبالنظر لتعدد المتهمين فقد اكتسبت القضية زخم المحاكمات السياسية
المثيرة.. وعلمت آنذاك أن الأمن سجل مجريات المحاكمة التي دامت ليالي
وأياما وأن السلطات المحلية تابعت تسجيل مرافعة الأستاذ/ بال أحمدو
التيجان وترجمتي لها.. ولأن الوسائل السمعية البصرية لم تكن متطورة ولم
تكن التسريبات سهلة يسيرة كما هي الآن فإنني لا أستبعد أن أغلب المحاكمات
ذات البال تسجل مجرياتها ويتم تسريبها من طرف القائمين على الأمن خرقا
لما ينص عليه معروف الإجراءات الجنائي. وأنتهز الفرصة لأطالب بتسريب
المرافعة النادرة للزميل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للعدل ثم رئيسا
للمحكمة العليا.
وبالنظر للتطور الحاصل في وسائل الإتصال ولمخالفات التسجيل التي تتعذر
على القضاة السيطرة عليها عندما يكون الأمن مصدرها يتعين التفكير في
تفعيل علنية الجلسات القضائية المكرسة في النصوص القانونية بإعادة النظر
في المادة 278 من معروف الإجراءات الجنائية بهدف رفع حظر استخدام أجهزة
التصوير والتسجيل في الجلسات بما يمكن الصحافة من نقل وقائع المرافعات
ويساهم في حسن سير العدالة مجاراة للعالم وسعيا لفوائد أثبتها خبراء
دوليون أذكر منهم الأستاذ Paul Mason منسق مركز الإعلام والعدالة في معهد
Southampton بالمملكة المتحدة الذي قام ببحوث أثبت على إثرها أن بث
مجريات المحاكمة عبر الوسائل السمعية البصرية يسهم في حسن سير العدالة..
فقد آن الأوان للأخذ بالمعايير العصرية في تجهيز القاعات القضائية
بكاميرات تصوير وأجهزة تسجيل تحقق توثيقا لم يعد من المناسب ولا الضروري
الإعتماد فيها على الضبط البشري وحده.. وفي انتظار التجهيز، الذي يتأخر
غالبا، لن يضيرنا رفع الحظر عن التسجيل والتصوير الذي تتيحه الهواتف
الخفيفة المنتشرة.
- يتواصل.