الساحة العربية بوجه خاص في الوقت الراهن تتعاطي وتتجاوب مع الشعار والبرنامج الإسلامي بشكل خاص أكثر من غيره، لأسباب متعددة تاريخية ومعاصرة، ليس هذا مجال تفصيلها وبسطها.
والمغرب العربي ليس بعيدا عن هذا المنحى، بل قد كان الفوز الأول للإسلاميين ضمن ربيعنا العربي في تونس، الواقعة ضمن إقليمنا المغاربي.
والحركة الإسلامية في موريتانيا ليست حزب "تواصل" وحده، ولكنه الأكثر صمودا ونجاحا حتى الآن.
بالمقارنة مع الأجنحة الأخرى، إن عنينا الحركة الإسلامية بالمعنى الأيدلوجي المعروف، تأثرا بالفكر الإسلامي المعاصر وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين، دون الوصول إلى مفهومها الأشمل، أي كل نشاط إسلامي يسعى لتحكيم شرع الله، رغم إختلاف النظرات والفهوم والمراجع أحيانا.
أقول إستطردا، كان تواصل الأكثر تماسكا، مستعينا بخلفية قيادية جل رموزها والمؤثرين الرئيسيين -على الأكثر- من ولاية اترارزة، مع تجانس في الخلفية الإخوانية، "وإن ادعى جميل أحيانا ميلا سابقا للطرح الترابي وتناغما لاحقا مع الفكر الغنوشي، وتمسك أكثر رواد هذا الحزب بالمذهب السني السلفي، الاخواني المنحى فكرا وثقافة وتمدرسا.
ولذا فإن الحديث عندنا معشر الإسلاميين الموريتانيين عن حزب "تواصل" حديث ذو شجون.
يتراوح بين النقد الموضوعي الهادئ والنقد اللاذع غير المنصف أحيانا، المتأثر بهنات ونزعات الدرب الواحد، والتوق إلى مراجعة تفتح الباب لاقتناص الفرصة الراهنة، وعدم تضييعها، عسى أن نخدم من خلالها ما اقتنعنا به، من عقيدة وقناعة إسلامية راسخة جامعة شاملة للمصالح الدينية والدنيوية.
ولعل الحزب المذكور إن لم يعي ضرورات المرحلة، سيكسب نتيجة إنتخابية وسياسية في وقت لاحق، لا تقارن ولو من بعيد ببعض ما أحرزه الآخرون في تونس، فمن باب أولى الحركة الأم في كنانة أرض الله (مصر).
فالاسلاميون الذين يقودون هذا الحزب، والذي يفترض أن يضم جميع الوطنيين من غير الاسلاميين بالمعنى التقليدي، مطالبون بالتصالح مع الذات من خلال كسب كل إسلامي إبتعد عنهم لأسباب أو لأخرى، ولا أعني الانتماء المباشر، بقدر ما أعني تنسيق الجهود، وتوسيع الإطار وتجسيد جو الوئام والتآزر في مثل هذه المراحل والحقب الاستثنائية الصعبة، عسى أن يتحقق الحلم البعيد المنال.
مع فتح الباع والصدر لأصحاب المدارس الأخرى الصوفية والطرقية والسلفية والمذهبية، وكل مشرب مؤمن بالإسلام الجامع، حلا ومنهاج حياة، وليس شعائر فحسب، لا يطمح ناسكوها إلى تحكم الشرائع الإسلامية المنقذة بإذن الله، وفق رؤية حكيمة مرنة، لا تفرط في شرع الله، ولا تتجاوز واقع الحياة والناس أو تغفله وتقفز عليه.
الأمر يحتاج إلى مشاورات سريعة تفرز برنامجا مفحما، على غرار التجربة التونسية، ويكرس الحوار الداخلي في وقت قياسي، يدفع ما أمكن من التشرذم وتفتيت الجهود في الوقت الراهن على وجه الخصوص.
وبهذا يكسب الاسلاميون (بالمعنى الأوسع) قيادة المرحلة المرتقبة، بتحكم من حزب "تواصل"، والمخططين والمهندسين من الحلفاء من داخل الدائرة أو خارجها، وضمن حلف الحركة الإسلامية ومنسقية المعارضة، دون تعارض كبير أو تصادم أو تفجير للصف الوطني المعارض، المقاطع للمهازل العزيزية.
وقد تكون واجهة ووظيفة الرئاسة مرحليا، مثلا لعنوان إسلامي أو وطني توافقي، ليس بالضرورة من أعضاء حزب "تواصل".
وبهذا يحرز الحزب الفضل والأجر، وإن فقد بعض التحكم -مؤقتا- في القرار الأول في هذا البلد الصعب، المعقد.
ليخوض تجربة حكومية ونيابية تشاركية، تمنح مزيدا من الوقت لدراسة المسرح الميداني، وتفادي التسرع إلى مهام قد يكون توليها في وقت مبكر حارقا، ويوحي بالحرص على ممارسة الإقصاء والاستئثار الكامل، بأغلب الكعكة، وبأبشع الصور والنماذج المتخيلة.
حزبنا هذا ليس معصوما أو عديم الأخطاء، وإنما هو تجربة تحتاج إلى النقد والترشيد المستمر الصادق، قبل الدفاع المتشنج العاطفي، القريب النظر والخيال.
لقد تفرقت الحركة الإسلامية الموريتانية في الشعاب، شذر مذر، لأسباب كثيرة، أولها الاختلاف السياسي، والصراع على النفوذ والواجهة، وقد تكون نفس الأسباب وغيرها مما هو معروف كافية لحبس الناقة في مبركها.
وقد ينتبه رفاق الدرب لضرورة إعادة النظر في الواقع الحالي للحركة والحزب على السواء، لتفادي نقص معتبر في المكاسب المنتظرة، فيتجاوزوا النقص الحالي والتقصير المحتمل، ضامنين أملا أكبر وأرجح في مستقبل أزهر، لهذا الحزب خصوصا والحركة الإسلامية عموما، والوطن على الوجه الأعم.
إن الأيام عبر، والحياة دروس ونظر، وما أحرز الخلاف إلا تفتيت الجهود، وضعف الصف، وتيه المسيرة والقافلة.
وتسيير الأحزاب، بعيد من تسيير الجمعية الثقافية الإسلامية، التي خدمت في وقتها وأوانها، وذهبت إلى ربها، وقد تركت في النفس، ذكريات طيبة، خصوصا أيام الشباب والعنفوان.
وأما تسيير التحالفات والتفاهمات فأمر أعقد وأعتى.
فمن باب أولى وأحرى تسيير وترتيب أمر الدولة الجامع المانع.
إن خطر التقوقع من أكثر الأخطار المحدقة بحزب "تواصل"، الذي يرفع دوما الشعار الإسلامي الوطني الواسع، وهذا جيد، ولكن تركيبته في أصلها قبل فرعها الحالي، تخفي بعض العقد التاريخية، التي يستحيل تجاهل وجودها وإحتمال تأثيرها السلبي على المستقبل القريب لهذا الكيان الحزبي الواعد، رغم كل التحديات.
وخصوصا إن أحسن إستقبال وتوظيف النصح، وتجارب الغير، وإلا سيظل هذا التحدي المذكور (التقوقع)، أكبر عائق أمام النجاح المنشود.
وفي التكرار تركيز وتأكيد فالبرنامج أولوية، والحوار مع المماثلين فكريا، لتقريب هوة الخلاف، إن لم يتمكن من ردمها نهائيا، أولوية أيضا ومصلحة قصوى مهملة، فحين تتضح معالم البرنامج، يصبح مأوى إختيار وأقتراع وتصويت، لكل من يراه مفيدا لموريتانيا وسائر مواطنيها وساكنتها، حاضرا ومستقبل. وبمثل هذه الخطوات، يدخل التواصليون في ساحة أوسع ربما، مما سبق، تفرضها ضرورات الحقبة الحالية، المتعددة الآلام والآمال على السواء.
ومن ثم يتم رسم الطرق والوسائل لتحقيق وتنفيذ سلمي قانوني، لا يتناقض مع التحالفات محل الإلزام المعنوي، إن استمر الوضع الراهن الهش، لمنسقية المعارضة، المهدد بالتفرق أو على الأقل الاختلاف الكبير، عندما يحل موعد الانتخابات، وخصوصا الرئاسية منها.
فتظهر مطامح العسكر في العودة للواجهة، ولو بطرق غير مباشرة، ويظهر حرص رجال الأعمال والقبائل على المصالح الضيقة، ولو تطلب الهدف والمقصد التحالف مع الشيطان، ويرفع أحمد أصبعه السباب للرئاسة، ويطل مسعود كعادته بعقيرته مدعيا الزعامة والكفاءة والنقاوة والطهارة والصلاحية الكاملة، لهذه الأمانة، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتحرصون على الإمارة وإنها بئس المرضعة وبئس الفاطمة".
ويتطاير اللعاب ذات اليمين وذات اليسار، مذكرا بقوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحمل الإنسان إنه كان ظلوما جهولا". سورة سبأ
وقد قال الرمز الإسلامي الصاعد، جميل منصور إن الحل جاهز، عانيا ربما، البديل البشري المتكامل، لخلافة الجهاز التنفيذي الحاكم حاليا، برلمانا وحكومة ورئاسة.
فهل يشير إلى إمتلاك حزب "تواصل" الذي يرأسه منذ فترة نشوئه -بدون تناوب- لمرشح كفء للرئاسة، مثله أو غيره من قيادات الحزب، أو ربما رموز أثقل وزنا خارج دائرة الحزب، أم عني بكلامه قدرة المنسقية في مجملها، بتوحد وإنسجام، قد يفضي بسلاسة وسهولة، إلى مرشح وطني توافقي جامع، وهذا قد يكون مستحيلا، في الحالة العادية، بالنسبة لمن يعرف جيدا، طبيعة بعض قيادات المنسقية، المعروفين بالحرص على التصدر والاستقلال في لوائحهم الانتخابية، وخصوصا الرئاسية منها.
إن خطر التقوقع ليس مقتصرا على صف الإسلاميين فحسب، فمن المفترض أن لا تكون الأحزاب الوطنية لفصيل أيدلوجي واحد، فتلك عيوب عانت منها بعض التجارب الحزبية، في مناطق خارج منطقتنا، فما جنت إلا ما تعانيه من استبداد وإقصاء في واقعنا العربي القائم، الذي دفع إلى ظاهرة "الربيع العربي" التي ظلت تتمدد تدريجيا، إلى أن وصلتنا تقريبا، ولو على إستحياء.
إن هذا الحزب واعد فعلا رغم نواقصه، ومآخذ بعضنا عليه، خصوصا في الإنغلاق غير المعلن، وغموض مصادر التمويل، وإن كانت علة يعاني منها الإسلاميون والعلمانيون على السواء، في ساحتنا السياسية العربية، على إمتدادها الجغرافي والتاريخي، وتنوعها وتعدد تجلياتها وإفرازاتها، لكن حرصنا على الأمثل والأرسخ والأنجح، قد يدفعنا إلى التوغل في مسارات النقد، دون تحفظ أحيانا، عسى أن نقوي الأساس، قبل الوصول إلى محطات أخرى أكثر حساسية وإنكشافا وإهتزازا وتأرجحا.
وأكبر علة يعاني منها السياسيون الموريتانيون كراهية النقد والتوجيه، ويحسبونه في أغلب الأوقات إستهدافا، عن قصد وسبق إصرار وتدبير.
ويقولون بلسان حالهم أو مقالهم، أو هما معا، "إنه أمر دبر بليل".
ويفضلون ليلهم على نهار منقشع وضاء، متوازن ملهم، لهم وللجميع ممن حولهم، ولا يتذكرون أنهم جزء هام من الجسم الوطني، فبصلاحه تتجه الأحوال للصلاح الأوسع، وبنقص النجاح يتعثر المسير.
ولهذا أسباب عدة منها، قرب عهدنا بالديمقراطية والتعدد الحقيقي لا الصوري، وتعود بعضنا على العمل السري السراديبي في أيام وسنوات خلت.
إنها مجرد تأملات لمن شاء أن يتدبرها، عسى أن تقوده إلى أعمق منها من بنات فكره واستنتاجه وتأمله الخاص الهادئ الهادف.
"وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"
"الدين النصيحة، قلنا لمن؟، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وحين تنضج العقول والفهوم، قد يتضح أن" الإسلامي الحق" هو "الوطني الحق"، لأن كل موريتاني-إفتراضا-مسلم، وكل مسلم قابل لارتقاء مدارج الهدى والعلم والعمل البناء.
وإنني لواثق بأن إخوتي على مستوى حزب "تواصل"، سيستقبلون هذه الدردشة بسعة صدر، عسى أن يتكيفوا نسبيا أو جزئيا مع المرحلة القادمة.