قليل من التيدنيت بثوب التاريخ / الناجي محمد حرمه

إن لكل شعب خصوصيتَه، وثقافته، وتقليده الذي يحافظ عليه، ويميزه عن غيره من الشعوب، والأمم التي تحيط به، وقد تميزت الثقافة الشنقيطية عن غيرها من الثقافات المغاربية العربية، والإفريقية السودانية بجملة من الأمور الثقافية خاصة على المستوى الفلكلوري.
كانت ـ وقد ظلت ـ بلاد السيبة قبل أن تعرف هذه التسمية تزدهر بالموسيقى الموريتانية ذات الخصوصية التقليدية، 

وتمثل التيدنيت أهم الآلات الموسيقية الموريتانية على الإطلاق؛ حيث تعتبر أم غيرها من الآلات الموسيقية مثل آردين، والكيتار، وغيرهما؛ أي ما يعرف موسيقيا بجامع آنگارَ.
وليست التيدنيت الآلةَ الموسيقية الوحيدة، ولكنها الأفضل من بين الآلات الأخرى؛ ولعل ذلك عائد إلى أنها مثلت ذات حقبة من حقب هذه البلاد رمزا لقوة إقليمية ضاربة بجذورها في أعماق الصحراء، وما فتئت هذه الآلة تزدهر وتنحو منحى العلمية برعاية سياسية من القوم حتى أضحت علما موسيقيا مميَّزا قائم الأركان مبيَّن المعالم، برع فيه فنانون ذوو حنكة، ودراية به، وقد تنافست الإمارات الحسانية في احتواء أهل هذا الفن، والاحتفاء بهم، وتقديرهم حتى بلغوا من ذلك الشيء العجيب، وهناك حكايات شفوية يرويها بعض الفنانين تؤكد ذلك، ولكنا سنضرب عنها الذكر إلى غيرها؛ إذ ليس غرض التدوينة تبيان ذلك لأنها سِيقت لغيره.
لقد حاول، ويحاول بعض الباحثين، والفنانين أن يرجعوا أصول التيدنيت إلى الثقافة العربية، ويربطوها بالعود العربي الذي جاء هذه البلادَ مع الفنان الشهير زرياب طريد الفن المشرقي، ولكن هذا التأصيل على رأي بعض الباحثين  عار من الصحة، وفيه تكلف لا يخفى، وثمة دوافع تجعل هؤلاء الباحثين، والفناين يتبنون هذا الرأي، ويدافعون عنه لغايات قد لا تكون موضوعية؛ فليس من الإنصاف أن نغْمط الآخرين حقهم، وأن نختزل كل شيء في الثقافة العربية لأغراض قومية ضيقة.
لعل الأولى الميل إلى أن آلة التيدنيت في الأصل سودانية إفريقية مستوحاة من تلك البلاد، ومستقدمة منها، وليس لها علاقة بالعود العربي.
صحيح أن الفنانين الموريتانيين طوروها، حيث حُوِّرت عن شكلها القديم إلى الشكل الذي باتت عليه الآن، بل يمكن القول إنهم قطعوها مع ماضيها الذي لم يصل إلينا منه شيء ذو أهمية يمكن الارتكاز عليه، وليست لدينا عنه نقطة يمكن أن ننطلق منها.
والحق الذي يطمئن إليه الباحث أن هناك رؤيتين تؤصلان لهذا الشكل الموسيقي؛ تربطه أولاهما بالعود العربي، وبالثقافة العربية الإسلامية، وترجعه إلى أيام العباسيين، وتعتبره ابنا شرعيا للموصلي، وزرياب مع مراعاة قدم الزمان، وطول الآماد، بينما تجنح الرؤية الأخرى إلى أن التيدنيت ذات أصل إفريقي منبَتٍّ عن العود العربي.
ومهما يكن فإن التيدنيت تأسست بشكلها الحالي مع قدوم القبائل الحسانية خاصة بعد تأسيس الإمارات المغفرية التي توزعت حكم البلاد بعد معركتي:  انتتام، وأکيرت اللتين كانت الأولى منهما عام1630و الثانية في حدود1635م.
إن من شبه المسلم به أن إمارة أولاد امبارك حازت قصب السبق في ميدان أزوان، وقد تولت كِبر الاعتناء بالفن، والفنانين حتى غدا اسم التيدنيت مرتبطا بها، على أننا لا نغفل الدور الذي اضطلعت به الإمارات المغفرية الأخرى بالإضافة إلى إمارة إدوعيش .
تتكون التيدنيت من جوانب ثلاثة أو ما يعرف بالطرق، وتعني اجانبَ الطريق، أو النمط الذي يُدرج عليه، ولا يمكن الخروج عنه فنِّيا إلى طريق أخرى في التيدنيت، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا مما يميز هذه الآلة عن غيرها مما  يعرف بجامع آنكار(آنكار، جمع إنكري) حيث يجوز في هذا الأخير الخلط بين أشوار الجوانب الثلاثة دون التزام بجانبة واحدة؛ وهذا ما جعل لهذه التسمية معنى، بينما يحظل في التيدنيت الجمع بين أشوار الجوانب، فعلى التيدنيتي إذا كان في إحدى الطرق أن يلتزم بها وليس له أن يخرج عنها، ويحرم ذلك تحريما باتا، وهذه مسألة من أبجديات هذا الفن، على أن التيدنيت، وجامع آنكار يشتركان في وجوب تسلسل اظهور؛َ فلا ينبغي الرجوع من اظهر إلى اظهر الذي قبله؛ فمثلا يمنع أن يعود الفنان من فاقو إلى كر، أو من لبياظ إلى لكحال أو من لبتيت إلى لبياظ؛ لأن الالتزام بهذه المقامات ضروري، والإخلال بها مرفوض لعدم مناسبته (زاحل).
وهذه الجواب على التوالي:
ـ اجانبَ الكحلَ، ويرى بعض الفنانين أنها أقدم هذه الجوانب وأغناها بالأشوار، وهذا أقرب للصواب، ولعل له من التاريخ شاهدا يعضِّده؛ ذلك أن في هذه اجانبَ ظهرا يسمى هيبة معزوف(مخبوط) لأمير من أمراء لبراكنة يسمى هيبة ول نغماش، وهذا الأمير البركني توفي 1700م، فهذا أمر يُستأنس به، ويدل على قدم هذه اجانبَ على غيرها، ويُعزِّز ما ذكرنا كثرةُ الأشوار في هذه اجانبَ التي لا يخفى أنها تزخر بكم هائل من الأشوار مجهولة العزف ومعلومته.
ـ اجانبَ البيظَ، وهي دون الأولى من حيث كثرةُ الأشوار، ولكنها أيضا غنية بالأشوار، وتشتمل على الكثير منها، فهي التي تداني اجانبَ الكحلَ وتساميها، فهما في التيدنيت فرسا رهان.
ـ لكنيديَ، أو العاكر اسمان لاجانبَ الثالثة وهي جانبَ أشوارها قليلة إن لم تكن معدومة، ولذا وصفت بالعاكر ، أما سبب تسميتها بلكنيديَ فلعل أقرب تفسير له أن كلمة لكنيدي تعني في اللغة الصنهاجية اختلاط السواد بالبياض، وعليه فإنه لما كانت هناك جانبَ كحلَ، وأخرى بيظَ أصبح مستساغا، ومقبولا منطقيا أن تكون هناك جانبَ مختلطة تجمع بين السواد والبياض، وعلى كل حال ليس هذا إلا من باب الرجم بالغيب فلا حقيقة قطعية تؤكده.
تلك إذن هي اجوانب التيدنيت الثلاثة، وهناك ما يعرف باظهر وهو عبارة عن كتلة وزنية موسيقية تتماشى فيما بينها، وتمتاز عن غيرها، وقد اصطلح الفنانون بادئ أمرهم على أربعة اظهور هي: كر وفاقو وسنييمَ ولبتيت، ثم عدلوا مؤخرا إلى تفريع ظهر خامس من سنييمَ فجعلوها ظهرين ظهر أكحل، وآخر أبيظ أصبحا معروفين في الأوساط الأدبية الأزوانية باكحال سنييم وابياظ سنييم ليؤول أمر اظهور في النهاية إلى خمسة هي:
ـ كر
ـ فاقو
ـ لكحال(اكحال سنييم)
ـ لبياظ (ابياظ سنييم)
ـ لبتيت
ولكل ظهر من هذه اظهور اسم في جانبَ من الجوانب التي ذكرنا آنفا.
ولولا الإطالة لذكرنا ذلك بالتفصيل ولكنه مبثوث في مظانه فليرجع إليه من شاء.
وختاما ستبقى الموسيقى الموريتانية مدينة لأسرة أهل آگمتار التي سكَّت التيدنيت على لغة القوم بالإكرام والتبجيل، وستبقى الحناجر الشجية، والأصوات الشحاريرية إن شاء الله تردد مع اعل انبيط ول حيْب اللَّ ول آكمتار الكَرص (بتّ اغيار) حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وسنبقى متمسكين بهُويتنا وثقافتنا أبدا، ولن تزال هناك فئة تحمل لواء هذا الفن، وتدافع عنه إلى آخر الدهر.

 

27. أغسطس 2017 - 11:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا