تعبر البطالة من أخطر الأمراض المجتمعية لما يمكنها أن تعلبه في تكوين نفسية العاطل عن العمل, فالمتتبع للأحداث الدولية التي يتم تناولها على وسائل الإعلام من حين لآخر , يمكنه و بشكل جلي أن يلاحظ مدى قابلية انخراط العاطلين عن العمل و خاصة من فئة الشباب في الأعمال الإجرامية على إختلافها و إختلاف التنظيمات التي تتبناها فكرا و تطبيقا. و تعرف البطالة أنها مصطلح يستخدم للإشارة للأفراد القادرين الذين أصبحوا في سن العمل,
و في رحلة بحث متواصلة عن العمل و لكنهم لم يجدوا عملا ما, كما و تعد إحصاءات البطالة جزءا من إحصاء القوى العاملة للدول .
ظاهرة البطالة تنتج في أغلب الأحيان عن غياب فرص عمل رغم توفر القدرة اللازمة للقيام به, و هو أمر ينتج عن إختلال في التوازن بين فرص العرض و الطلب, بحيث تأخذ عروض الطلب نصيب الأسد من ما هو متاح في سوق العمل. كما أن وجود بعض العوامل الأساسية يساهم في تنامي معدلات البطالة و الفقر و من أهم هذه العوامل : وجود فرق بين الاجور السائدة في سوق العمل و الاجور المطلوبة لتحقيق التوازن بحيث تتوفر فرص العمل للجميع , بالإضافة إلى غياب العدالة و عزوف الشباب عن العمل في المجال الوظيفي المهني بسبب مجموعة من المؤثرات المرتبطة مباشرة مع الثقافة الاجتماعية السائدة.
هذا المقال المتواضع لا يعد بالكشف عن كل المستور المتعلق بآفة البطالة, و لكنه سيحاول لفت إنتباه القراء الكرام إلى خطورة آفة مجتمعية تساهم إلى حد كبير في تنامي معدلات البطالة في بلد يزخر بالمصادر الطبيعية و مع ذالك يشهد معدلات بطالة و فقر مرتفعة جدا مقارنة ببعض البلدان المجاورة .
موريتانيا كحال أغلب بلدان العالم الثالث, تشهد معدلات بطالة مرتفعة جدا رغم سياسة التطريز و التجميل التي يتم التعامل بها مع هذه الظاهرة, فالأرقام الرسمية تتحدث عن معدل وردي يصل ل 10% و هو أمر يفنده الواقع. غير أن هذه الآفة القاتلة تجد أرضا خصبة للنمو رغم وجود سوق عذراء و غير مستغلة من طرف اليد العاملة المحلية, و هو أمر يؤدي بالدارس لهذه الظاهر إلى الإنتهاء بتبني وجود نظرية البطالة الإرادية التي تقول بوجود عاطلين عن العمل يرفضون العمل نتيجة لعدة أسباب منها : عدم موائمة هذه الأعمال مع كفاءاتهم و طموحاتهم , أو عدم وجود رواتب تشجع على إقتناص هذه الفرص, أو أخرى متعلقة بالنظرة المجتمعية البدوية التي تحتقر المهن و الحرف و الكثير من الأنشطة الخدمية في تجسيد صريح للمقولة الشهير ( البدوي يحتقر اليدوي ) و هو أمر ملاحظ جدا حيث تتميز بعض مكونات المجتمع ببعض المهن و الحرف دون غيرها لدرجة أصبح فيها المركز الإجتماعي للإنسان يربط بمهنته .
المجتمع الموريتاني لا يزال يعيش نوع من الحنان للماضي , و هو أمر جعل أفراد المجتمع و خاصة الناطقين بالحسانية يتبنون الكثير من العادات و الأفكار الرجعية التي تزيد من تخلف المجتمع و بالتالي البلد عن ركب التنمية و التطور الذي بدأت مجتمعات مجاورة تتجه له . و لأن العادات المجتمعية لا تزال تسيطر و بقوة على الحياة العامة فهل حقا يمكننا في هذا الصدد الحديث عن تأثير ما للثقافة الإجتماعية على معدلات البطالة في موريتانيا ؟ أم أن البطالة ظاهرة فرضت نفسها على مجتمعنا كحال باقي المجتمعات ؟ بإحتقارهم للحرف و بعض الأنشطة الخدمية ألا يساهم الكثير من الموريتانيين في بقائهم في مستنقع البطالة ؟ هل حقا يمكننا هنا الحديث عن بطالة إرادية ؟ و هل من العقلاني الحديث عن لذة للكسل ؟
إن حياة التفاخر التي دأب عليها مجتمعنا , جعلت الكثير من الأشخاص يعيشون على حساب أشخاص آخرين تربطهم بهم علاقة مجتمعية من نوع ما , فمثلا يلاحظ و بشكل فاضح اختباء بعض الأشخاص خلف محيطهم الأسري أو المجتمعي , و هو أمر أوجد في نفوس هؤلاء العاطلين عن العمل نوع من اللامبالاة و الخمـــــــــــــــــول الناتج عن لذة الكسل التي يعشونها بشكل يومي . فكسل ودلال العاطلين عن العمل يؤدي بالبلد إلى فقدان الكثير من الطاقات الشبابية و الكفاءات التي تميزت في مجالها و لم تجد ذاتها بين الأشخاص الناشطين و ذالك لعدة أسباب , فمثلا تؤدي سياسة التكفل المجتمعي بالأفراد آنفة الذكر إلى برمجة الكسل المجتمعي و تثبيط حماسة العاطلين عن العمل في بحثهم عن عمل، الأمر من شأنه أن يُطيل فترة البطالة, أو حتى أن يحمل بعض المُستفيدين على الانسحاب بكلّ بساطة من الحياة الناشطة.
الدعوة إلى المنطق واضحة جداً , فقد تذوب نظرية البطالة غير الإرادية من تلقاء نفسها فور غمسها لأكثر من خمس ثوانٍ في مياه الواقع, ف"الجيش الاحتياطيّ لرأس المال" (العاطلين عن العمل)، الذي كان من المُفترض بحسب ماركس، أن يُمارِسَ ضغوطاً باتجاه خلق فرص عمل ، يقوم هنا بالعمل في الاتجاه المعاكس. و يصبح السبب عينه في بطالته، من خلال العمل على عدم الإستفادة من كفاءاته تبعا لعدة إعتبارات منها ما يرجع لعدم موائمة مخرجات المنظومة التربوية مع متطلبات سوق العمل , عدم الولوج للمعلومة و تبني أفكار و ثقافة مجتمعية تزيد من معدلات البطالة. فكيف لنا ألاّ نفكّر بأنّ العاطلين عن العمل يفقدون أيّ حماسة للبحث عن العمل، نتيجة لذة الكسل التي تنتج عن تكفل مجتمعي يؤمن لهم دخل ما على الرغم من محدوديته و طريقة حصولهم عليهم ؟
و لأننا في بلد لا يزال سكانه مرتبطون بشكل كبير بالعادات و التقاليد , و يتفاخر فيه المرؤ بماهية أبيه و المكانة التاريخية لمحيطه الأسري بشكل ينعكس على حياة الأفراد و تعاملاتهم , بحيث لا يمكن للمنحدرين من مجتمعات عرفت تاريخيا بمكانة عليا في المجتمع , و لا حتى لبعض الحاصلين على الشهادات العليا ممارسة بعض الحرف أو خلق بعض المشاريع التي ينظر لها المجتمع ببعض الإزدراء و التي تم حجزها مجتمعيا لبعض فئات المجتمع. الفائدة هنا برمّتها تكمن في الدعوة إلى التعقّل. فالإشكالية الفعليّة تكمن في الواقع في كوننا في بلد غني من حيث الموارد الطبيعة و التواجد الجغرافي المطل على المحيط, و مع ذالك يشهد إرتفاع معدل البطالة في ظل وجود سوق عمل غير مستغل بشكل كامل من طرف اليد العاملة المحلية , فالموريتاني رغم بطالته و قسوة الظروف الإقتصادية التي تمر به و تتفاقم يوما بعد يوم, لا يزال يرى في نفسه بعض الأنفة المتخلفة التي تؤدي به إلى إحتقار الكثير من الأعمال المهنية و الخدمات و الأعمال الحرفية بشتى أنواعها و هو أمر جعلنا نحاول تناول البطالة من خلال محاولة تسليط الضوء على مدى تأثير الثقافة الإجتماعية السائدة التي أوجدت لذة الكسل و ساهمت بالتالي في إرتفاع معدلات البطلات في صفوف الشباب.