هل حقا نكرم أمواتنا؟ / سماعيل ولد الشيخ سيديا

سؤال طالما راودني حين أحضر مراسيم وداع أحد الأموات خارج موريتانيا. ربما هي الغيرة على الأوطان تجعله ملازما لي، ولربما هو لإحساس بالتقصير.
وفي هذه المعالجة سنرى معا أين نحن من غيرنا، وإلى أي حد نحن جديرون بما ندعي. الموت في هذا العالم من حولنا تحفه هالة من الطقوس لا علاقة لها بالمسطرة الفقهية ولا العقائدية، فقط تدخل في دائرة احترام الميت، وتقدير حداد ذويه.

صحيح أن التعجيل بالدفن مطلب شرعي لدينا ويليق بمناخنا ونفسياتنا، فالمجتمع كله مؤمن ويتعامل مع الموت والحياة على أنهما ظاهرتان طبيعيتان قدريتان. لكننا في عالم تطور فيه العلم والسلوك بشكل متسارع؛ يجعل من المسألة نازلة.
في غرفة الأموات (بيت الرحمة) كما نسميه هناك في المستشفى الرئيسي في داكار لفت انتباهي قاعة ظليلة ومقاعد في الجانبين، يجلس المعزون من الذين أرادوا الحضور منذ الوهلة الأولى في وقار ونظام، وذوو الميت ومقربوهم من الذين أوتوا حظا من فقه الجنائز يتشاورون حول الغسل وصلاة الجنازة والدفن؛ ورجال يتلون سورا من القرآن الكريم بعناية فائقة وينتظرون دنانير من الحضور حطت في أيديهم بهدوء.
لا تخطئ العين مآق دامعة أو وجوها أشحبها الحزن، لكن السر في ذلك الحزن المتراخي هو أن الميت في الغالب قضى ليلته في غرفة الأموات ليس لاستكمال الإجراءات الإدارية فحسب؛ وإنما لتمكين الصحف اليومية والإذاعات المحلية من تحديد وقت الصلاة والدفن لمن رغب الحضور.
تقام الصلاة في الغالب في مصلى كبير في المقبرة وقد حفر اللحد بعناية واحترام، وتلك مناسبة للمشيعين ليروا بأمهات أعينهم مقبرة خطت أزقتها بعناية فائقة منها ما يتسع لسيارة أو اثنتين ومنها مايضيق عن ذلك.
وأسماء المقيمين في القبور مكتوبة وتواريخ مواليدهم ومغادرتهم مصفوفة على اللوحات، وبين الغسل واللحد تكون الحافلة المتوسطة الحجم سوداء اللون المخصصة للأموات سيدة الطريق تحمل الجنازة إلى مثواها الأخير.
وتشيح بك الذاكرة وأنت تكابد المرور بين جموع المشيعين لتتذكر موقفا مشابها في المستشفى الوطني بانواكشوط؛ حيث الهرج والمرج لا مقاعد ولا ضوابط، فالميت ودعنا للتو ولا شيء مخصص لحمله سوى رباعيات دفع لايتسع حوضها لحمل أصغر الكائنات، والجهات المعنية تترك الطقوس كلها في يد ذوي الفقيد.
حتى الغسل يكون في أحد المساجد في انواكشوط إما مسجد الرابع والعشرين أو مسجد ولد امحود أو مسجد الشرفاء، أو غيرها وليس في المستشفى، مع ما ينطوي عليه الأمر من مخالفات صحية.
الكل متطوع ويحب الخير ويرغب في الآخرة لكن لا ضوابط ولا وقار ولا حتى احترام، الدولة غائبة والفقه مغيب والمتطوعون بالمال والنفس والولد جاهزون.
لا تحديد لوقت الصلاة على الميت في موريتانيا، فقط موعد صلاة الجماعة في أحد المساجد، ولا قانون ينظم نقل الميت ولا غسله ولا حتى بلاغات إذاعية وصحفية حول الفاجعة. وقد ندفن الناس أحياء بسبب "التسريع" وقد نفوت الصلاة على الجنازة لابن الميت أو ابنته.
وحين نصل المقبرة تنكسر كبرياء الدولة والجهات العمومية، لا تخطيط للمقبرة ولا حرمة للأموات إلا من تولى الأمر بنفسه.
أما عن نقل الأموات خارج نواكشوط فتلك حكاية أخرى. لقد توصل الطب الحديث للكثير من الحلول تزيل الهواجس حول ضرورة التسريع، وتوصل علم الإدارة إلى انسيابية في الإجراءات سهلة المنال مبلغة للمقاصد.
ماذا لو احترمنا قليلا أمواتنا وتطور سلوكنا نحو مفقودينا؟ حتى نتدارك لباقتنا ووقارنا في مختلف مراحل الوداع.
على المصالح البلدية والإدارية في مختلف مدننا أن تعلم أنها مقصرة في حق الأموات فلتكن هذه السطور صرخة حق لمن اسطاع مطالعتها وهو شهيد.

28. أغسطس 2017 - 8:56

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا