في موريتانيا وحدها يتجاسر الجميع على الاختصاصات وفي غيرها من البلدان يُحترم حماها؛ كل الموريتانيين مختصون في التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم الاجتماع والقانون، ويتحدثون جميع اللغات، كلهم فقهاء في الشريعة الإسلامية، أصوليون، محدثون، نحاة، ولغويون، أدباء، وشعراء
كل أبناء الأمم التي تحترم نفسها يقدرون التخصص، ويعطونه حقه فلا تجد أحدا يتحدث عن غير تخصصه، وحين يتكلم أصحاب المجال ينصت الجميع،
وكل علم مسند إلى أهله؛ فهم الحاكمون فيه، الناهون الآمرون؛ لأنهم أفنوا سنوات كثيرة من أعمارهم يقارعون مجالهم، ويعودون إلى عويص أمره، وخفي شأنه، وقد غاصوا فيه، وسبروا أغواره حتى بات باطن أمره ظاهرا لهم، ومستوره مكشوفا؛ فنالوا بحق ثقة الآخرين فيهم فيما يتعلق بميدانهم.
الموريتانيون، وخريجو جامعتهم هم الذين تجد فيهم من لا يتقن تخصصه، ومع ذلك يقحم نفسه في غير مجاله؛ فترى المختص في التاريخ(تجوزا) يتحدث عن القانون، وجزئياته، والأديب يذكر من الحديث معضلَه ومنقطعَه ويتحدث عن علم الرجال.
لو كنا موسوعيين كما كان الشناقطة من قبل لكان الأمر جميلا، ومستحسنا رغم أن الاختصاص أكثر دقة، وأسهل منهجا، ولكن الموسوعية إن وجدت بمعناها الحقيقي(ولا أظنها موجودة) لا يعدلها شيء.
حين نحترم المؤرخ عندما يتحدث عن التاريخ، وتقلباته ونثق بقراءاته واستنتاجاته، ونترك للاجتماعي مسوحه ودراساته، ونكِلُ للقانوني مواده، ودساتيره ...حينها فقط يحق لنا أن نتحدث كما يتحدث الآخرون، وما دام كل اختصاص مشاعا للجميع فلن نفلح أبدا؛ وليس عدم احترام التخصص المشكلةَ الأوحد؛ فالأدهى منها أن أغلب المختصين في هذه المجالات أدعياء عليها، وليسوا جديرين بحمل مشعلها، ولا يربطهم بها من العلاقات سوى الاسم...وفي أكثر الأحايين لا يُفرَّق بين المختص، وغيره في الاختصاص إلا بالاسم، والشهادة؛ فهما في المادة العلمية سواء إن لم يكن الأخير أكثر إلماما بها...في موريتانيا تجد خريج الجامعة قسم الفلسفة لا يحفظ بالاسم فقط عشرين فيلسوفا ناهيك عن معرفة ما هو أعمق من ذلك، وتجد خريج الأدب والنقد لم يقرأ لابن قتيبة، ولا ابن سلام، وليس لديه علم بقديم النقد، ولا حديثه، لا يكاد يعدد أصحاب المعلقات، وربما تجده لا يعدد بالأسماء المدارس النقدية الحديثة المشهورة.
وليس الدكتور، والأستاذ الجامعي أحسنَ حالا من طالبه؛ فنادرا ما يوجد أستاذ مطلع على جديد اختصاصه، فعهده به أيام نقاشه الأطورحة؛ خاصة إذا حصل على الوظيفة، وأمّّن حاله ومآله...
كيف يمكن أن يكون الشخص مختصا في مجال لم يقرأ أمهات الكتب فيه، بل ربما لا يعرف إلا أسماء أصحابها في أحسن الأحوال!.
في موريتانيا تجد من يحمل شهادة عليا في أصول الفقه، والشريعة وهو مع ذلك لم يقرأ للغزالي، ولا الآمدي، ولا الرازي، ولا الشوكاني ...تجد المهتم بالمقاصد لم يقرأ لابن عاشور، وسمع نتفا متفرقة من الموافقات ولم يكلف نفسه عناء مراجعة الكتاب مرة أو مرتين...
لا يسمى باحثا، ولا دارسا، ولا متخصصا في مجال من لم يكن على علم شبه تام بأسراره وخفاياه؛ يعرف كل شيء كتب عنه، ويطالع كل جديد جد فيه، على بصيرة بكل ما له علاقة به، يدرك كلياته وجزئياته، يعرف مصادره، ومراجعه، ومظان كل شيء فيه.
المتخصصون عندنا في المجالات لم يصلوا بعد حد الثقافة فيها، وأصدق ما ينبغي أن نصف به متخصصينا أنهم مثقفون في مجالهم العلمي أما التخصص بالمعنى الفعلي فشيء آخر.
في مؤسساتنا التعليمية العليا يدرس الطالب لاجتياز الامتحان فقط، والدكتور يطالع ويبحث للحصول على مقعد علمي لا أكثر، وحين ينجح الطالب ويحصل الأستاذ على مرامه تتوقف المسيرة العلمية...قليلون ونادرون هم الأساتذة الذين يواكبون التطوراتِ والأبحاث العلميةَ التي تصدر في مجال اختصاصهم.
نحن نعاني من عدم القدرة على إتقان التخصص، وإذا تجاوزنا ذلك تسليما نجد أمامنا عدم احترام التخصص.