" في حملة لتوحيد الأحزاب السياسية و نحن ذاهبون من النعمة إلى ولاته ضمن قافلة تضم رجال الدولة الأوائل من قبيل ولد داداه و ولد يحيى انجاي و أمدو صنبولي وغيرهم، تعطلت إحدى سيارات الوفد فكانت فرصة للتوقف و تناول الشاي و متابعة النقاش و البحث عن حلول لقضايا المرحلة الحرجة. أذكر أننا تجمعنا قرب أيكنينه (شجرة تنضب) و أن الوقت كان حوالي الساعة العاشرة صباحا حين استشارني المختار ولد داداه في أمر علم نعتز به :
التفت إلي و طلب مني رأيا، أجبته بعد استغراق لم يطل: أرضية خضراء يتوسطها هلال و نجم أصفران...قال : لماذا و ما معنى ذلك؟ قلت: لمقتضى الحال، و باعتبار أننا في رحلة من أجل توحيد حزب الوفاق ذي اللون الأصفر و حزب التقدم ذي اللون الأخضر، فلا ضير من تبني لونيهما لعلمنا الجديد بهذا الشكل، طلب مني رسم الشكل فرسمته على ورقة تداولها بعض أعضاء الوفد . اقترح ولد يحيى انجاي إضافة تعديل "ما" على الرسم، فتم رفضها... و لا أذكر أن رمزية الهلال و النجم أثارت أثناء التوقف تساؤلا أو جدالا. كان ذلك قبل الاستفتاء و المختار لا يزال (كاهية)".
كلمات لم تكن ملفقة بالقطع، أصيلة أصالة من سمى موريتانيا بالجمهورية الإسلامية حين احتدم النقاش بهذا الشأن، رزينة رزانة أول دبلوماسي موريتاني صال شرقا و جال غربا و تحدث إلى الملوك و الرؤساء و خاطب الشعوب في المحافل و المساجد و الأماكن العامة في سبيل التعريف بموريتانيا ، صريحة صراحة من طلب منه نائب الوالي الموريتاني بسنلوي المختار ولد داداه أواخر 56 التعاون بشأن مقتضيات التحرر - و هو حينئذ مندوب للكتاب منتخب - فقال:"... لم أجبك حتى الآن لأني لا أزال في حيرة بين بصيص أمل رأيته فيك لصالح مستقبل البلاد و بين كراهيتي للاستعمار ومن يمت إليه بصلة..."، و صادقة صدق من سئل عن شهادته إبان تأسيسه لرابطة العالم الإسلامي مع زملاء أغلبهم دكاترة من بلاد شتى فقال: شهادتي هي أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله.
كلمات لا تزال محفورة في ذهني، مرقومة في دفتري الخاص تماما كما سردها علي الشيخ محمدفال ولد البناني "خريف" العام 1992 بقرية التاكلالت و قد بدأت أوراق عمره تتساقط آنذاك، و قد بدأت أحس بضرورة الجلوس إليه طويلا و الاستماع إليه مليا، لأخذ مذكرات أمانة ليست في الحسبان، على نية نشرها يوما ما إن استطعت إلى ذلك سبيلا.علما بأن الرجل من القلائل الذين لعبوا دورا جوهريا في التأسيس انغمر في موجة صراع حقيقي و كفاح مرير من أجل استقلال من نوع فريد، خاضه جيل من أبناء موريتانيا البررة تحدوهم مسؤولية عالية دفعتهم إلى التعامل مع المرحلة بروح الفريق التي عادة ما تنحشد فيها همم الرجال و تنصهر فيها جهودهم الذاتية و تنطمس فيها سائر التمظهرات ذات الطابع الشخصي. و لربما لذلك السبب لم ينسب العلم مباشرة لمن اقترحه في الأصل و لم تشر إليه مأثورات أهل الشأن حتى ممن أخذوا عنه و استشاروه و عرفوا عنه كيف خاض معارك شرسة و قدم الكثير من اجل استقلال هذه البلاد تكليفا و ليس تشريفا... هذا الرجل الذي بدأ نضاله منذ أن تم انتزاعه يتيما من أمه للاكتتاب في مدرسة "النصارى" أوائل العشرينيات من القرن المنصرم. ثم تمرد على الحكام المستعمرين و من والاهم منذ الثلاثينيات غمرة عمله في "المخزن" مدرسا و مترجما و كاتب خزينة و نقابيا، إلى بروزه دبلوماسيا متميزا في معركة التأسيس و مستشارا للرئيس من نوع خاص يتخاصم معه كثيرا و معه يتصالح قدر ذلك في شأن مصلحة البلاد و العباد، صداحا بالحق لا يخاف في ذلك لومة لائم، حتى لقبوه في المشرق و في بعض المحافل الإسلامية بأسد الصحراء...
كانت فكرة علم البلاد الأول فكرة ذات دلالات بناءة تم تقديمها في فترة كانت البلاد تحتاج حقا لكل ما هو جامع للشمل مانع يرمز للحرية و الاستقلال، فلقي هذا العلم قبولا لدى عموم الشعب وتبناه القوم و "تداولوه" ، و رفعه الجيل الأول و ما تلاه من الأجيال رفرافا في جميع المحافل الوطنية و الإقليمية و الدولية، دل على أننا شعب مستقل وحده الإسلام قبل كل شيء آخر نصون كرامتنا و نعتز بقيمنا و حضارتنا الإسلامية. علم سيبقى اليوم و غدا مفخرة للأجيال المتلاحقة خفاقا و قد انضافت إليه علامات سؤدد، لو أن أول من اقترحه حاضر بيننا اليوم لكان أول من أشاد بهذه الإضافة، لأنها برمزيتها تشدنا لبعضنا أكثر و تقوي لحمتنا الوطنية الشيء الذي مثل الهاجس الأول للرجل منذ أن كان الأكثر اقتناعا و تفاؤلا بمستقبل البلاد من بين فريقه الطامح للاستقلال.
لقد تغيرت الأحوال كثيرا منذ مقتضيات ما قبل 60 سنة، و برزت تحديات من نوع آخر أكثر إحراجا من تحديات مرحلة التأسيس، تولدت عن إخفاقات تراكمت منذ أن بدأت رياح الشمال في هبوبها تثير "رمال الصحراء" حتى تعكر الجو بتداعيات انقلاب 78 المرخص و المشروع نوعا ما، إلى ظهور دستور 91 وما تلاه من تأزم اجتماعي و سياسي على مدى 17 سنة تقريبا اشتد إلى درجة الانسداد التام للآفاق التنموية، تولد عنه انفجار...ثم ...انفراج بدأ بخطوة مشروعة هي الأخرى لكنها جريئة جدا و ليس من السهل استيعابها، تكشفت بعد ذلك عن معالم أقنعت غالبية المواطنين أنها خطوة جبارة في سبيل المصلحة العامة و تصحيح المسار ومواصلة البناء الحقيقي لهذا الوطن و الرفع من شأنه.
لقد حل زمن إعادة الاعتبار لماضينا المضيء و إعادة النظر في بعض أمورنا الهامة إحياءا للبحث الصادق عن الحلول و الحوار الديمقراطي المعني بالقضايا الوطنية الكبرى ، فأقيمت مشاريع البناء و تم تفجير الطاقات البشرية و الإمكانيات المادية على مدى ثماني سنين من الانجازات الرائعة التي لا تزال تترى، و حصل أن صوت الشعب لصالح تعديلات دستورية استفتاءا وجبت المشاركة فيه، اقتناعا أنه من مقتضيات المرحلة و أنه من مخرجات حوار وطني معمق تفاعلت فيه النخب السياسية و الاجتماعية و الثقافية لمراجعة الماضي و استشراف المستقبل و ضم مختلف أطياف أهل الرأي حتى استقام الموقف على إلغاء غرفة للشيوخ مجحفة من أجل إبدالها بمجالس جهوية تساعد في توسيع دائرة المشاركة و تفتح آفاقا جديدة للمواطنين تمكنهم من التفاعل الإيجابي مع متطلبات التنمية؛ و على ضم مؤسسات المجلس الإسلامي الأعلى ووسيط الجمهورية و الفتوى و المظالم في مؤسسة واحدة للفتوى و المظالم ترشيدا للمال العام؛ و أما ما كان للعلم من نصيب في هذه التعديلات فلا يمكن أن يكون مساسا بقدسيته، بل إضافة نوعية في سبيل تعزيز انتماءنا لهذه الأرض التي ارتوت من دماء الشهداء الطاهرة ذودا عن حماها. و هي رمزية لا بد أنها لم تغب عن الجيل الأول و أن لها اعتبار في الطرح. و لكن بما أن إملاءات المجتمع الثقافية آنذاك لا يمكن أن تقدم الأحمر رمزا، فقد سلموها فجر الاستقلال راية خضراء يتوسطها هلال و نجم أصفران. أما اليوم و قد تحللنا من تلك الاملاءات التقليدية التي تشوبها نظرة تشاؤمية للأمور، فما هو الضير في الإصدار الجديد؟: خطان أحمران يكتنفان العلم الخالد الجميل، تخليدا لذكرى شهدائنا الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن و دفاعا عن ثغور الإسلام و المسلمين. فكم هو جميل أن نعترف للمقاومة بالجميل و هو اعتراف يجمعنا بالتأكيد و لا يمكننا الاختلاف عليه خاصة إذا كان برمزيته يدل على أننا قوم نذود بدمائنا الزكية عن الدين و الشرف و الحياض و يجعلنا نتصالح مع ماضينا و نؤصل حاضرنا و نتطلع لمستقبلنا الزاهر مثلما أراد ذلك الرعيل الأول طيب الله ثراه.
...أذكر أنه في جلسات 92 و ما بعدها سرد علي الرجل بتأثر بالغ مذكرات لم تكن إلا صفحات مضيئة من تاريخ هذه البلاد الرائعة...أذكر أن السرد كان عفويا و صادقا و ممتعا إلى الحد الذي جعلني أستجدي الشيخ لمتابعته عند كل توقف رغم ظروفه الصحية. و أذكر كم كان أسفي كبيرا عندما لم أستطع إكمال تلك الشهادة رغم الاستمتاع بالسرد و الإصغاء، ففي مرحلة من المراحل كان لابد من التوقف النهائي خوفا من الإجهاد التام، و كان لا بد من الفراق... يؤسفني ذلك كثيرا كما يؤسفني أنني لا أزال أجد حرجا في نشر تلك المذكرات، إذ أنه من الصعب على الشخص نشرها بتجرد دون أن يجدف ضد التيار أو أن يصطدم بأمزجة أو مقتضيات أحوال لم تكن متوقعة. فكلام الشخص عن جده بهذا الأسلوب كلام غير مسموع إلى درجة أنه غير مباح بالنسبة للأعراف في هذه الزاوية من الوطن الكبير خاصة إذا ما شابه مثقال ذرة من الاعتزاز ، و حديث لا يستسيغه السلوك العام خاصة إذا ما اعتراه ما يمكن تأويله نوعا من الاستفزاز. فليسامحني الجميع على نشر أمانة لم تتأخر بعثا و على صراحة لها بالتأكيد مكان من الإعراب. و لتشفع لي سنوات طويلة من الغربة و الاغتراب، أخذت مني جل الاعتبارات السلوكية الشائعة هنا، و ما تركت لي منها سوى أن "الحقيقة لا تقال كلها و أن الكذب حرام"... و لم تعطني في المقابل غير جرأة غريبة على كسر المألوف رغم احترامي للخطوط الحمراء.