لقد عشنا في هذا العهد عصيانا سياسيا لأول مرة جسده الشيوخ حينما رفضوا الانصياع للأوامر منحازين إلى شرفهم شاهرين"لا" في وجه النظام، وإن قيل في ذلك ما قيل، إلا أنهم بإشهارهم لهذا السلاح يظهرون لبقية القطيع أن الأمر ممكن وأن فاعله ليس مصيره بالضرورة إلى نار جهنم! جاء الدور على أرباب الكلمة حيث قال الشعراء "لا" عندما دُعوا لإنجاب فَرِيٍّ من الشعر،! أعلنوه عصيانا أدبيا،
وليس الأمر بغريب فالشعر على هذه الأرض لم يعد ذلك المقدس المصان، لَوَى فيه هذا النظام شفاهه، وأظهر له جفاءه، فثأر الشعراء لكبرياء الشعر وانحازوا إلى شرف الحرف، وقالوا "لا" لنظام احتقرهم ووصفهم بالثرثرة اليابسة عندما دعاهم لإنجاب ذلك الفري ليحل محل معلوم أصل مخضب اليدين لا يحبه إلا السعداء ولا يبغضه إلا الأشقياء!! طبعا لابد من الاستثناءات في كل شيء، هناك عدد أخذ كَمَّهُ من متكأ تزوير وسيأخذ كَيْفَهُ من نزوة استبداد، لكن ذلك لا يهم فالاستثناءات معروفة عبر التاريخ والانحياز إلى صف غير الحاكم في عهود الاستبداد والترغيب والترهيب أمر لا يُلقاه إلا ذو حظ عظيم، يبيت على الطوى عادة ويظله حتى ينال به كريم المأكل! فقد ابتلع الشيوخ " النَّعَمِيُّونَ" لاءاتهم بقوارير من فضة وتراب، لكن الشعراء ابتلعوا اللاءات بأكواب من البقشيش! ربما نعيش في قابل الأيام عصيانا مدنيا يشل الحركة في مؤسسات الدولة والأسواق، والظروف تستدعي ذلك طبعا، فمؤسسات الدولة تعاني من عجز شديد نتيجة ممارسات وزارة المالية حتى أن بعضها عجز عن دفع مستحقات عماله ومنح طلابه، وبات التقرب من وزير المالية أفضل السبل للحصول على المستحقات، أما سير العمل وانسيابيته فذلك ترف كبير لم تعد المؤسسات تحلم به،، و عمال الدولة يعانون من الغلاء وجمود الرواتب وجنون الأسعار ينضاف إلى ذلك نظام لا يقيم وزنا للموظف حيث هو يمارس عليه عن طريق مقربيه الماليين كل وسائل الضغط، يتجسد ذلك في النظام الضريبي القاسي وملاحقة الرواتب في كل صغيرة وكبيرة والمنع من التقدمات والعلاوات، أما التجار وأصحاب القطاع الخاص فبالإضافة إلى الجباية والضريبة التي تلهب ظهورهم صباحا ومساء فإنهم يعانون مع ذلك من عصابات السطو والتلصص التي أصبحت في هذا العهد تمارس عملها نهارا وبأساليب أكثر بشاعة، ربما تُتوج هذه "العِصْيانات" بعصيان عسكري الأمر الذي لا يحدث عادة إلا حينما تبلغ الأزمة الحلقوم، والأزمة الآن وحسب كل المعطيات بدأت تدب في الأقدام منذ بعض الوقت حينما قرر النظام الدخول في تلك التعديلات غير التوافقية والمثيرة للجدل عنادا لطيف كبير من شعبه ضاربا عرض الحائط بأبجديات القوة والقيادة والتمكن التي تتطلب نوعا من الحكمة والحلم والتغابي والتواضع والإصغاء بغير الآذان العادية والنظر بالبصيرة لا بالبصر، إلا أن النظام فضل المواجهة وفتح كل الجبهات بما فيها الاعتقالات والاستجوابات وتلفيق التهم، كل هذا في أرضية هشة كل شيء فيها قابل للانفجار لتفشي الظلم والفقر والجهل والمرض وفساد التعليم والصحة والعدالة وتفشي المحسوبية والوساطة والزبونية والرشوة وغياب العدالة الاجتماعية وتفكك المجتمع قبليا وعرقيا وطائفيا وجهويا، والأخطر من ذلك ضعف الوازع الديني وتشويه القدوات وتدمير الأسرة وتلاشي خصلة التكافل الاجتماعي والتي كانت صمام أمان المجتمع.
أخيرا، تهاطلت بعض الأمطار لتكتمل اللوحة بعناق المستنقع للقمامة فيزغرد الباعوض وتصفق الحشرات وتأخذ الشوارع لونها الأغبر البائس، هذا في العاصمة، أما الداخل فمازال يعاني من نقص الأمطار وتبعات الجفاف ونزيف الأعلاف،، وتلك مؤشرات عصيان فلاحي ورعوي، أما مآسي المواطنين الذين بدأوا البوح بها في مآذن الزيارات "المفاجئة" في حضرة "الإمام وخلفائه" والتي لا تجد منهم إلا التضاحك سخرية!! فإنها هي الأخرى مؤشر عصيان شفهي! اللهم إنا نستودعك دين موريتانيا ودنياها وأمانتها وخواتم عملها، اللهم ردها إلينا ردا جميلا إنك ولي ذلك والقادر عليه.