أراني حريصا كمدخل منهجي على أن أبيّن أن كتابتي عن هوية الشرائح القابعة في قاعدة الهرم الاجتماعي الموريتاني ستضرب صفحا عن بحث الأصول الجينية لها عربا كانت أم بربرا أو زنوجا أم غير ذلك، لقناعتي التامة أنّ الناس في الأصل متساوون، وإنّما يتفاضلون بالتقوى والكسب، وأنّ ما هو شائع في بلاد الله السائبة هذه من التفاضل بالأحساب والأنساب ـ بصرف النظر عن صحتها أو زيفها ـ
ما هو إلاّ تدليس من سلسلة الأكاذيب والتّلفيقات الكثيرة التي ترسّخت في هذا البلد على مرّ الزمن، كذلك لا شيء ذا بال يترتّب على إثبات انتمائها إلى هذا العرق أو ذاك أو نفيه، أو يغيّر من حقيقة حياتها الواقعية شيئا. ولعل من مسوّغات الضرب صفحا عن مسألة بحث الأصول الشرائحية في هذه المعالجة السريعة أيضا، أنّ مشغل الأنساب ـ كما هو دائما ـ عمل هجين في الوقت الضائع، وحالة من الترف الفكري، تأبى عندي محورية الإشكالية وسخونتها من الارتهان لهما.
كذلك فإنّي حين محّصت ما استقبلته سابقا من آراء المنتقدين لطرح المسألة الشرائحية في البلد، وبعد تعريض موقفي الخاص "لأشعة كاشفة" إضافية من ذائقتي وقناعتي النقديتين ما ازددت إلاّ قناعة بأنّ "فضّة" الكلام في المسكوت عنه إزاء ما يناقض ثوابت الدين ومسيرة التقدم، وينافي مبادئ العدل والمساواة، أفضل عندي كثيرا من "ذهب" السكوت على الظلم ودونية الإنسان، والقبول بتراتبية جاهلية وعنصرية بغيضة ما أنزل الله بها من سلطان.
لذا فقد كان وما زال من المهمّ عندي العمل على محاولة علاج حقائق واقع الشرائح السفلى في الترتيب الاجتماعي الموريتاني، كما هو قائم في حياتها المعيشة، لا كما يحلو للبعض القفز عليه أو التنكّر له أو تزويره.
فهوية البيظان وكذلك البولار والسونكه ثم الولف، هي في حقيقة الأمر هويات هلامية متحايلة، قاسمها المشترك دائما ـ بعد أن عزّ عليها أن تشفّ أو تتدقرط أو تعتدل ـ هو التراتبية والعنصرية، ومن ثمّ فهي لا تصلح أن تبقى هويات فعلية بالنسبة لبعض الشرائح المنضوية تحتها، لأنّها من حيث تسعى إلى أن تكون حاضنة لكلّ أطيافها ودودة معها، لكنّها في الواقع تقصي تلك الشرائح وتنتهك حرماتها، إنّها بهذا المعنى تتأرجح تناقضا لتغدو مكانة محترمة وأصولا "نقية" لا شائبة فيها بالنسبة للقبائل وبعض المجموعات التي تتصدّر الهرم الاجتماعي ، لكنّها ليست غير انتماء مجاملة أو استلحاق منّة بالنسبة للشرائح السفلى في ذلك الهرم.
إنّ لتلك الهويات قوة رمزية مطبوعة في وعي ولا وعي الجميع ـ تقريبا ـ تسير في اتجاهين متعاكسين: فهي قوة هيمنة تجعل من القبائل وبعض المجموعات شرائح عليا، تتمتّع بالهيبة والمنزلة المتقدّمة، وهي بالمقابل قوة حيف تجعل بقية الشرائح تبعا، لا هيبة له ولا احترام، والأسوأ من ذلك أنّ لهذه القوة الرمزية استراتيجية متلوّنة كالحرباء، تمتنع على التحديث وتقاوم التغيير، وتتوجّه بشكل دائم للتحكّم بواسطة الرمزي، ليس في الواقع الاجتماعي فحسب، بل في جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وتُخضِع الكلّ لهيمنتها المطلقة.
والشرائح الملحقة بتلك الهويات المتحكّمة (أعني بها لحراطين ولمعلمين وإيكاون وآزناكه) تعيش أوضاعا لا تحسد عليها، فهي ما زالت تحاول التشبّث بها رغم كلّ شيء، ومع ذلك ما زالت تئنّ تحت وطأة تراتبيتها الفجّة التي تضعهم بالوراثة، وترفع عليهم غيرهم بالوراثة ، ممّا يولّد نبذا اجتماعيا متواصلا ونظرة دونية مستمرة، تفرزان حالة من التضعضع شواهدها بادية في شتّى جوانب الحياة المعيشة، بيد أنّ ما هو خطير حقا هو دوام تعلّق الشرائح المستضعفة العفوي بتلك الهويات الإقصائية، التي كرّست نبذها وجسّدت نظرة الازدراء إليها، مع التنكّر التام والنفور المتواصل من هوياتها الخاصة التي اختارتها لنفسها أو فرضت عليها.
إنّ ما يجمع بين الفئات الدنيا في الترتيب الاجتماعي، رغم تباينها واختلاف أدوراها، ورغم الدور المحوري الذي لعبته في حياة المجتمع وما زالت تلعبه إلى الآن هو العزلة والحصر في قاع الترتيب الاجتماعي، مع الرضى والاستسلام لذلك، وكأنّه قدر لا فكاك منه، فالمعروف أنّ تلك الشرائح حين انخرطت في حِرَفها وأدوارها منذ القدم، عزلها المجتمع في دوائر مغلقة، ورسم لها مجتمعة حدود مكانة متدنية في سلّمه الاجتماعي هي مكانة الأتباع، وعبّأ تلك المكانة بكلّ ما وصلت إليه مخيّلته من الشحن السلبي،. ومع ذلك بقيت هذه الفئات على مدار الأيام ـ إلا ما ندر ـ راضية قانعة بمكانتها الهامشية وعزلتها الاجتماعية، وهو لعمري أمر غريب.
ومبدئيا لا عيب عندي في أن يعيش الإنسان أيّا كان التبعية يوما بفعل ظروف وأوضاع معيّنة لم يمتلك فيها ـ لسبب ما ـ أدوات الهيمنة أو ميكانيزمات السيادة الكاملة، فتلك سنّة الله في خلقه، أوَلَمْ يعش العرب قديما التبعية للروم والفرس، وما زالوا يخضعون لهم وللصهاينة إلى الآن؟ وقديما أيضا غلبت الفرس الروم، وبعد غلبهم غلبوا في بضع سنين، وعرف البربر والأفارقة التوغل الأجنبي منذ القرون الوسطى وما قبلها، وفي تاريخنا الحديث عاش الزنوج والعرب والبربر على هذه الأرض بالذات التبعية للفرنسيين، وبدورهم ذاق الفرنسيون مرارة الخضوع والانهزام أمام الألمان، ولا تسألنّ عمّا حلّ بالألمان من تبعية وهزيمة أمام دول الحلفاء. والنتيجة في كلّ ذلك أنّه لا سيطرةُ هذا الطرف في ظرف معين، ولا تبعيةُ ذلك في فترة أخرى، تجعل هذا العنصر من طينة أعلى وأفضل وذاك من طينة أسفل وأسوأ، وتلك هي الحقيقة الغائبة والمغيّبة للأسف الشديد عن الكثير من الموريتانيين إلى الآن، بفعل الجهل والتخلف والعنصرية. أقول ليس ذلك عيبا بالمطلق في تصوّري، فميزان القوة لا يستقيم على حال، وإنّما العيب كلّ العيب هو الرضى بدوام الرضوخ والقبول باستمرار الاستسلام.
وكما انتفض الناس قديما وحديثا للذود عن كرامتهم وتحقّق لهم ـ في الغالب ـ ما أرادوا، بات من المطلوب من الفئات المظلومة في موريتانيا أن تنتصر لنفسها قبل أن تطلب من الآخرين إنصافها، فتثور هي أيضا على وضعية الإلحاق، وترفض تبعية محنّطة ومعبّأة بكلّ ما هو سيء وسلبي أعدت لها من أجل أن تبقى في الحضيض. ولكن ليكن ذاك في إطار حضاري راق، وسلوك واع، وتصرّف متّزن، يتحرّك ضمن استراتيجية مدروسة، تعمل على المحافظة على ما تحقّق إلى الآن من مشروع الدولة الوطنية، والدفع به أكثر نحو التطوير والتعميق، إذ هو الحلّ الحقيقي لمعاناتها المزمنة.
إنّ الخطوة الأولى في نظري هي إعلان البراءة من كلّ هوية إقصائية عنصرية لا تجد فيها هذه الشرائح ذاتها معزّزة مكرّمة، وما لهم من شرفها وهيبتها نصيب، وأوّل عمل في هذا الصدد هو فكّ الارتباط بالقبائل والطوائف التي يُلحَقون بها، وهي العاجزة أبدا عن النظر إليهم بتقدير، أو توزيع العدالة حتى على المستوى الرمزي بينهم وبين غيرهم، بل هي التي أورثتهم تلك المكانة الهامشية. وظنّي أنّ انسلاخ تلك العناصر واستقلالها عن أيّ بنية قبلية أو طائفية سيدخل الأخيرة ـ على الأقلّ ـ في حالة من الصدمة تجعلها تستفيق من نرجسيتها وتراجع منظومتها العنصرية، هذا إن لم تدقّ مسمارا حقيقيا في نعش كينونتها.
أما الخطوة الثانية فهي تحويل المُلحَق إلى أصيل والهامشي إلى مركزي، من خلال الاعتراف بالهوية الخاصة بتلك العناصر، واستظهارها عند الاقتضاء، حتى ينطبع في ذهن المتكبّرين أنّ الانتساب إلى هذه الفئات ليس عارا ولا جريمة، فيكون التعريف عند سؤال من قبيل: من أيّ الناس أنت؟ أنا حرطاني، أنا امعلم، أنا إيكيو، أنا آزناكي (لدى كلّ المكوّنات الوطنية وبجميع لغاتها)، بدل أنا امباركي أو جكني أو كنتي أوعلوي أو سيبي أو توروبي أو كيري أو موديني... والقائل يعرف قبل غيره أنّه أنتساب بالتبعية وليس بالأصالة. ولهذا الإجراء هدفان: أوّلهما تحدّي قوانين المجتمع ومواضعاته الظالمة، وتحسيسه بإفلاس قيمه العنصرية التراتبية، وبأنّ ما عمل جاهدا خلال عهود وفترات طويلة على جعله معيرة قد تحوّل عند أصحابه إلى مفخرة، وبذلك يتمّ إفراغ تلك التسميات تدريجيا من شحناتها السلبية، وتغدو تعريفا عاديا كسائر التعريفات المتداولة، يطمئنّ إليه أصحابة ويجدون فيه ذواتهم الأصيلة لا المنتحلة. أما الثاني فهو جعل الهويات العنصرية التقليدية ذاتها على المحك، وإحداث خلخلة في جدارها الصلب، ومواجهتها بهويات فرعية جديدة لا على سبيل الصدام والانتقام وتجزيء المتجزّئ، وإنّما على سبيل الندية والاحترام والاعتزاز بالذات.
والخطوة الثالثة هي مؤازرة بعض هذه الشرائح المظلومة لبعضها الآخر في صراعها المشروع من أجل العزة والكرامة، والحذر من أن تظل أيّ منها أداة صمّاء يستخدمها ـ من حيث لا تشعر ـ المتكبّرون كالببغاوات في ظلمهم لبقية الشرائح الأخرى، بمعنى أن يكف كل طرف عن كيل التهم وتعيير الآخر بالتّرهات، استنادا على موروث من الجاهلية والحقد والكراهية كرّسه المجتمع، بل إنّ على كلّ طرف من هذه الأطراف أن يستحضر في ذاته المبدأ الخالد: "أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض، أو الأسود لا فرق". وأن يستوعب بعمق أنّه صراع مصيري وشامل من أجل الذود عن كرامة الإنسان والذبّ عن حقوقه، بغضّ النظر عن شريحته أو لونه أو لغته.
والخطوة الرابعة هي التحرّك في إطار استرجاع الحقوق بحذر، بعيدا عن الاستفزاز أو إذكاء النعرات، أو استهداف جهة أو عنصر معيّن، وتلمّس مواضع الوجع بدقّة واحتراف، والبحث لها عن الحلول الناجعة بلا زيادة أو نقصان، مع إدراك أن هذه المظالم هي ترسّبات عصور عديدة من السيبة والظلم مرّت على هذه الأرض، شارك فيها الكثيرون، ووقع ضحيّتها الكثيرون، وأن مسؤولية تصحيحها ليست بالأمر الهيّن، ولا تقع على الضحايا وحدهم، وإنمّا هي مسؤولية كلّ القوى الخيّرة في البلد التي تتوق إلى مستقبل آمن وزاهر ينعم به الجميع.
أما الخطوة الخامسة والأهم، فهي تجاوز الهويات الخاصة كلّها نحو الهوية الجامعة ( موريتاني، مسلم، عربي، إفريقي)، وذلك عبر تشكّل وعي مدني معاصر، عن طريق تنسيق موسّع رسمي وشعبي، تنخرط فيه كل القوى الوطنية التقدمية الرافضة للعنصرية والتراتبية من سائر القبائل والمجموعات والشرائح، تلك القوى التي تؤمن بمبادئ الحرية والعدل والمساواة بين الجميع وتسعى لبناء دولة المواطنة، لا دولة القبائل والشرائح والمجموعات، وهدف هذا التنسيق هو التمكين للهوية الوطنية العامة، وتقزيم ما سواها من الهويات الفرعية بشكل تدريجي لتحل محلها في النهاية هويات بديلة تعرّف المرء بحسب الانتماء العام ـ كما سلف ـ وهو انتماء لا فضل فيه لأحد على أحد ولا منّة، أو بحسب الجهة التي ينحدر منها وليس القبيلة أو الشريحة أو المجموعة، كأن يُعرَّف المرء بفلان الزموري أو الإينشيري أو التروزي أو الآدراري أو الحوضي أو العصابي أو الكيديماغي...، وحينئذ ستكون موريتانيا قد وُضِعت اجتماعيا على السكة الصحيحة، وأصبحت تسير على أسس سليمة تتجاوز الاستعلاء والعنصرية وترسّخ العدل والمساواة.