يرفع الشعب الموريتاني بقواه الحية هذه الأيام سقف المطالب في وجه النظام الفاسد بدعوته بصراحة وجرأة إلى لملمة أغراضه والرحيل بأسرع وقت، مستلهما روح العصر الذي دخلته أمة العروبة والإسلام بحلول ربيعها الطلق وانكفاء فصول الهوان إلى غير ما رجعة بحول الله.
وكما هو الحال دائما عندما تهب الشعوب ويرتفع صوت الأحرار فإن أعداء الشعوب والمقتاتين من الكبت يرفعون عقيرتهم بمحاولات التشويش وتثبيط الهمم و إلباس حق الثائرين لبوس الباطل والسعي لإظهار المستبدين وكأنهم المتشبثون بالحق والمحافظون على الوسائل الشريفة في صونه والذب عنه. وفي هذا الإطار تحاول الزمرة المعتاشة من فتات نظام الجور العزيزي أن تشوه المطلب الجريء لشعب موريتانيا برحيل النظام وأن تصمه بكل أوصاف السوء، فهو تارة فتنة وشغب وتارة أخرى خروج على السلطان وأحيانا أخر استنكاف عن سبيل الحوار وتنكب لمهيع الديمقراطية. وعند التوقف عند تخرصات هؤلاء في منافاة الدعوة لرحيل الحكام الجائرين لمقتضيات الديمقراطية نجد دعاويهم تقول إن الرئيس انتخب بطريقة ديمقراطية وحصل على أغلبية وانتداب لمأمورية محددة وأن روح الديمقراطية تتطلب انتظار إكمال هذه المأمورية إلى آخر تلك التفريعات. ومع أنه يكفي في تكذيب هذا الحرص على الديمقراطية التذكير بسيرة هؤلاء "الديمقراطيين الجدد" القريبة حينما كانوا قبل فترة قصيرة يرفعون عقيرتهم بأقوال تناقض أقوالهم اليوم، فإنه لا بأس من التوقف مع هذه الدعوى ومناقشتها ليتبين هل تتأسس على أسس مقبولة في الديمقراطية الحقة أم أنها تعتمد فقط على قشور ديمقراطية قد تصلح للتمسك بها في الأوقات العادية ولكنها لا تغني في أوقات الأزمات. ولمحاكمة هذه الدعوى التي تحول الديمقراطية إلى مجرد "صندوق اقتراع" لا بد من العودة إلى حقيقة الديمقراطية التي تفرق بين الغايات والوسائل في هذا النموذج الذي يعد من أفضل نماذج الحكم، وكذلك العودة إلى تجارب الشعوب العريقة في ممارسته لنتبين روح الديمقراطية ومقاصدها ونتجاوز هذه "الديمقراطية الانتخابوية" " أو هذه "الظاهرية" التي تأخذ من الفكر الظاهري حرفيته ولكنها لا تستمد منه إخلاصه. ولدحض هذه "الظاهرية" نذكر - على وجه السرعة وليس التعمق حتى لا تبدو القضية وكأنها جدال فكري في قضية مستعصية- بأن النظام الديمقراطي لا يتحدد على أساس الانتخابات وشفافيتها (والشفافية بدورها لا تتحدد بسلامة الاقتراع، بل لا بد لها من متطلبات أخرى من بينها مثلا "عدم استغلال موارد الدولة بأي حال من الأحوال!!") وإنما يتحدد النظام الديمقراطي على أساس حكم القانون ودولة المؤسسات والفصل بين السلطات وجمهورية القوات المسلحة وقوات الأمن، وغيرها من المبادئ العامة للديمقراطية التي إن حاكمنا النظام الحالي عليها فسيتضح أنه نظام غير ديمقراطي وأن الدعوة إلى إسقاطه وإقامة نظام ديمقراطي مكانه أمر مشروع ودستوري. أما أهداف الديمقراطية التي يدركها المواطنون العاديون ويسعون إليها وهم ينشدون الديمقراطية فهي أن يكون الشعب هو صاحب السلطة يمنحها متى شاء ويحاسب عليها متى شاء، وبأي وسيلة سلمية حتى لو كانت ثورة أو عصيانا مدنيا، وأن يحد من أي توجه أو نزعة للديكتاتورية والحكم الشمولي تبرز لدى الحاكم حتى لو كان منتخبا بصورة لاشية فيها، وأن تكون للشعب قوة تمكنه من الوقوف في وجه نهب ثوراته أو سيطرة ثلة قليلة عليها، وأن يستوي المواطنون أمام القانون، وأن تكون المسؤولية على قدر السلطة بحيث يمكن محاسبة كل ذي مسؤولية عن أي تقصير يقوم به في مسؤوليته ناهيك عن التجاوز الذي قد يتعدى به على سلطته أو سوء الاستغلال لها... إلى آخر تلك الأهداف النبيلة التي ناضلت من أجل الشعوب من فجرها الأول، والتي اترك للقارئ الكريم الحكم على مدى تحلي النظام الحالي بها. وبتجاوز الديمقراطية النظرية إلى التطبيق العملي سنرى أنه لم تسلم أي دولة ديمقراطية في تاريخها السياسي من تجربة سقطت فيها حكومة او رئيس "قبل انتهاء مأموريته التي لم يمر منها حتى الآن سوى نصفها!!" بل إنه لا داعي للعودة للتاريخ إذ يكفي استحضار ما تعيشه بعض الدول الديمقراطية هذه الأيام فهذه اليونان سقطت فيها قبل أشهر حكومة باباتريوس قبل انتهاء فترها ونفس الشيء وقع لحكومة برلسكوني في إيطاليا، وقبل أيام قليلة سقطت الحكومة الهولندية قبل الموعد المقرر، وقبل ذلك أجبر توني بلير على الاستقالة من رئاسة الوزراء ليخلفه وزير ماليته والقيادي في حزبه حزب العمال كولد براون. هذا مع أننا لا نحتاج للذهاب بعيدا ففي تجربتنا الديمقراطية الرائدة خير مثال: ففي العام 2008 وتحديدا اليوم السادس من الشهر الثامن ... أسقط رئيس منتخب بصورة ديمقراطية "قبل انتهاء مأموريته"!! والخلاصة: أن الكلمة الأخيرة في الحكم على الأنظمة بالبقاء أو الرحيل في النظام الديمقراطي هل للشعب، ومن حقه أن يصدرها متى شاء لا تمنعه من ذلك آجال جامدة، وأن في استطاعته أن يعبر عنها كيف شاء لا تحول بينه وبين ذلك آليات باردة.