يتقدم الاعتدال في المباحث العامة للقيم الإنسانية كمستوى تتحدد فيه الفضيلة كوسط بين طرفين يمثل كل منهما درجة قصوى تتدنى فيها الفضيلة الأخلاقية إلى أحط مستوياتها لما تمثله هذه الدرجة الأكسيولوجية من إفراط أو تفريط.
و إدا كانت الفضيلة عند القدماء هي هذا التوسط بين الإفراط و التفريط، كأن نعرِّف مثلا: فضيلة الشجاعة بأنها اعتدال بين الجبن والتهور،
فإن الأمر يبقى من الناحية المنطقية منسجما ـ لا محلة ـ لكنه يبقى متعثرا ما لم نطبقه على المستوى الأكسيولوجي الإنساني العام، كما دعا إلى ذلك القرآن الكريم والسنة الشريفة، فالحياة الإنسانية في مختلف مناحيها ينبغي أن تؤسس على الاعتدال و الوسطية، لأن اليقين الإلهي الذي يعلو فوق كل يقين يرسم منهجا مثاليا للحياة هو الاعتدال في السلوك بصورة شاملة، فمما يضعنا على جادة الفهم الصحيح للمرجعيات الحقيقية لديننا الحنيف، الالتزام بمنهج حياة معتدل ينسحب على جميع أنماط تصرفنا في الحياة، و ذلك على الأقل، كترجمة معارفنا الفقهية و الأصولية إلى التوسط والاعتدال، لأن ما ينتشر على ساحة وجود مجتمعنا الإسلامي من مظاهر النكوص و التراجع للفهم الصحيح للمرجعيات الحقيقية لديننا الحنيف، يتمثل في مظاهر الغلو الذي هو في واقعه الفعلي قيمة تنحدر إلى أدنى مراتب الفضيلة بوصفه ــ بكل بساطة ــ إفراطا في الدين يؤدي إلى التطرف بشتى أشكاله، و هو بذلك يشكل أكبر خطر يهدد كيان أمتنا الإسلامية التي هي خير أمة أخرجت للناس.
إن المرجعية المركزية لمنهج الحياة الإنسانية ، هي في الواقع الاعتدال كقيمة إنسانية نابعة من صميم منبع الوحي الذي نشر اليقين الإلهي، فإذا ما عرضنا للمدلول الشرعي لظاهرة الغلو كمثال نستدل به على ضرورة الاعتدال كمنهج في الحياة، رأينا أنه مجاوزة الحد المطلوب شرعاً من العبد إلى ما هو أبعد منه، بل يشعر بأن ما طلبه الشارع قليل ولا يكفي فيغالي ويزيد من عنده على ما أمر به الشارع، اعتقادا بان ذلك محبوب شرعا، و بهذا المدلول يحيل الغلو إلى التطرف و الابتعاد عن الصفاء السني المؤسس على الاعتدال داخل المنظومة السلوكية الحياتية عموما و العبادية منها على وجه الخصوص.
فلا يغيب عن ناظر أحد منا اليوم أن الغلو في الدين الذي هو مفهوم شرعي بامتياز، يمثل في واقع الأمر خروجا على الشرع انطلاقا من النص الشرعي في القرآن الكريم و السنة الشريفة، يقول جل من قائل: [النساء/171].
و قد ورد النهي بصورة صريحة في مواقع متعددة من نصوص السنة النبوية الشريفة، كالحديث الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال:" قال لي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا في حصى الرمي، وفيه : " وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين."
و بذلك إذن تتكشف مواقع الغلو من الشرع كممارسات يضعها المشرع في دائرة المنهيات طبقا لما رأيناه من مرجعيات في الكتاب و السنة، و لمَّــا كان للشرع دائما من الناحية المعرفية أدواتُــه العلية الأصولية في المنهيات برمتها، فقد جاء الغلو إذن كسلوك يتجلى أثره السلبي على المنظومة السلوكية السنية السمحة بصورة تتنافى مع طبيعة الحياة الإسلامية التي بزغ فجرها ليشيع المساواة و ينشر الإخاء والرحمة و الانفتاح بين المؤمنين بعيدا عن التعصب و التشدد المتجاوز لحدود التوسط و الاعتدال، و ذلك بواسطة إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله عز وجل.
فالحياة إذن على المستوى السلوكي العبادي لها منهج لم يزل يتجسد عبر التأسيس الشرعي على الاعتدال، الأمر الذي ينبغي أن يضع سلوكنا بمختلف أبعاده على جادة الصواب المتمثلة في الاعتدال كمنهج نبني من خلاله حياتنا الدنيوية و الأخروية، به نبني و نحيا و نطمئن و نؤمن إيمانيا صافيا غير قلق.