جرت العادة في فترة الخريف ان اقضي الليالي في بادية على الطريق الرابط بين بوكي والاك 16كم شمال مدينة بوكي، وشاء القدر ان تكون اول ليلة اقضيها هنالك هذه السنة غير كل الليالي، التي عهدت في حياتي فقد تميزت بزائر جاء بعد منتصف الليل، كنت اسمع عنه كثيرا لكن السّماع عنه ليس كالنظر في عينه مباشرة اكرر عينه فله عين واحدة.
غادرت المدينة في حدود التاسعة مع محمد فاضل وعيني، فقد جاءا معي لقضاء شهر عطلة بعيدا عن صخب وحرارة نواكشوط،
وهاهما يغدران المدينة هربا من البعوض، امر نتقنه نحن اهل هذه البلاد، حطّينا الرحال في مسكننا الخريفي أو قل مكان مبيتنا، وهو عبارة عن امبار قاعدته اسمنتية قوية، واعمدته حديدية، وهيكله خشبي ومغطي بالسنك، بنيته قوية ومتوائم مع محيطه، فعرضه باتجاه الشرق واجمالا بنيته ايرودينامكية قدر المستطاع، له دفا من كج كويرة وكويرة فقط! ، دلفنا الي داخله واشعلنا مصباحا لبرهة ثم لم نلبث ان أطفأناه احتراما لقرار الحشرات القاضي بتحريم انارة الاضواء، قرار اتخذته ربما لأنها لا تستطيع التفريق بين الضوء والنار، تسامرنا وأجبت على كم هائل من الاسئلة امطرني بها رفيقيي حول النجوم والمجرات والكون والظلام والعدل وسبب غياب الضفادع عن نواكشوط ،واشياء كثيرة لم اعد اذكرها، ولم يكن يقطع تلك الاسئلة الا ومضات برق بعيد كانت على غرار السيارات العابرة لا تلتزم بقرار الحشرات .
قبل منتصف الليل بدأ النعاس يسرق مني رفقيي، لكن محمد فاضل قبل ان ينام نصحني بالعودة للمدينة قائلا: النو امركب واخيرنا انبات فالدشرة... ضحكت من نصيحته قائلا: البادية لا طعم لها بدون المطر... اليس كذلك؟ ..هز راسه لكنه لم يقتنع وخلد للنوم، بقيت صاحيا لوحدي ارقب تطور الغيوم وتشكل العاصفة ،وان كانت تسرقني احيانا غفوة ،لكني متيقظ مع ذلك ومستعد فبحكم خبرتي يجب ان انزل ادفا قبل هبوب الرياح وهذا ما فعلته بنجاح في حدود الواحدة مع ان الوقت لم يكن يعني الكثير بالنسبة لي فكل شيء بدا طبيعيا ،ايقظت رفيقيي وبشرتهما بان المطر سينهمر خلال دقائق انشاء الله.
بدأت الرياح تزمجر وترافقت مع هطول غزير ،وخلال دقائق خرجت الامور عن المعهود، فالسماء تحولت الي شلال يصب الماء صبا ،فلا هو قطرات صغيرة او كبيرة، ودفا صار يطير وينزل بقوة هائلة ،والاصوات الرهيبة تصم الآذان ومنسوب الماء في الداخل تجاوز منتصف الساق ،ولمبار يرتعش يمينا ويسارا ،وانا امسك عمودا حديديا يتوسطه املا في تثبيته، ورفيقي ملتفان بدراعتي بحثا عن الحماية، استحضرت في تلك الاثناء مقارنة بين ضعفنا امام قوي الطبيعة وشرحي لسؤال سابق من رفيقيي حول الفرق بين المجرة والكوكب، كان كل شيء يعزز ذلك الشعور بالضعف وقلة الحيلة ،فلم نكن نقدر ان ندلف الي السيارة بالرغم من انها علي بعد مترين فقط منا ،كانت الاصوات دليلنا الوحيد و وبصرنا فالرؤية صادرتها عين الإعصار ،اما الاصوات فكانت مزيجا من الصراخ والاستغاثة والتهشيم والصدم والتكسير والقلع والطيران والهبوط ... كلها كانت غريبة باستثناء الرعد الذي بدا لنا صوتا مطمئنا..!
انتهت العاصفة بعد نصف ساعة تقريبا وخرجنا لنجد انفسنا في تامورت، كأن المخابرات انتهت لتوها من تفتيشها ،فكل شيء مبعثر والمشهد تغير بالكامل ولم يسعفنا إلا ان امبارنا وسيارتنا- التي نمنا فيها بقية الليلة - لا زالا في مكانهما ،امر لم ينجح فيه بجدارة الا شجيرة ايزن Bosia senegalensis ،في حين فشلت فيه بيوت السنك وبيوت الطين ولمبرات وكيطونات والطلح واعمدة الكهرباء وحتي بعض بيوت الاسمنت المسلح ،فعلي امتداد 10كم تهشمت كل اعمدة التوتر العالي وانتقلت بعض الاغراض الثقيلة لمسافة عدة كيلومترات ،وذبحت صفائح السنك الماشية وجرحت عدة اشخاص ...توفي 9 اشخاص وجرح الكثيرون وكانت الاضرار البشرية منحصرة في القري ،فتحطم البيوت هو الذي سبب الوفيات بينما نجت التجمعات التي يسكن اهلها في لمبرات ،فكثيرا ما تطير من فوق رؤوسهم لعشرات الامتار او تتكسر فوقهم لكنها لم تسبب ضحايا علي الاقل !
دروس وعبر من وحي الكارثة
• ضرورة تفعيل دور مركز الوطني للأرصاد الجوية ليضم خلية لاستشعار الكوارث، والتحذير منها خصوصا انه تم رصد تشكل الاعصار قبل عدة ساعات من الكارثة؛
• تدريب الادارة الاقليمية على ادارة المخاطر؛
• التأكد من سبب تلف اعمدة التوتر العالي خصوصا انها حديثة العهد ومصنعة في مصنع الاك، صحيح ان اهتزازات الاسلاك قد تخلق cadence مدمرة، او بفعل تأثير احجار الدومينو امر يعرفه المهندسون المدنيون؛
• وضع معايير للسلامة في مجال البناء الريفي؛
• اما على المستوي الشخصي فسأعمل بنصيحة محمد فاضل هذه المرة، وسنغادر الي المدينة كلما شاهدنا تشكل عاصفة مطرية على الاقل كلما كان موجودا معي.