تعود الناس أن لا يحسبوا للأمور المعنوية صلة، بالمخاطر والعلات المادية الملموسة، التي يعانون منها أحيانا في مختلف جوانب حياتهم اليومية، لكن القرآن كرس لقاعدة بينة جلية، ربط فيها بين التقوى والبركة وبين الانحراف والترف والفساد والدمار والانتقام الرباني.
وهكذا يتضح بطريقة غريبة على بعض العقول، أن البيئة تتأثر إيجابا وسلبا حسب تصرف وسلوك ساكنها، وحسب الحديث الصحيح الصريح،
ينحبس المطر أحيانا بسبب منع الزكاة، وتتنزل المغفرة وتنمهر المياه من السماء، وتلد النساء بعد عقم، وتزداد الأموال، وغير ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية، كل ذلك بسبب ملازمة الاستغفار وتكريس التوبة النصوح الصحيحة، حيث قال جل من قائل، على لسان نوح عليه السلام، في محكم تنزيله: " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا".
وللمزيد من التبيين أقول إجمالا واختصارا: الخطر الأكبر حسب التصور الإسلامي الصريح، هو الابتعاد عن أوامر الله ومجافاة مرضاته ، وعدم الوقوف عند حدوده، ومصدر الخير الأكبر هو التقوى باختصار، وقال البعض في تعريفه: "العمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل"، وسئل الصحابي الجليل المتبحر أبي بن كعب عن التقوى، فعرفه بأنه مثاله، كمن يسير في أرض ذات شوك كثير، فهو يسير على رؤوس أصابعه، تفاديا لذلك الشوك.
فهل نتفادى الشوك المعاصر المتنوع والتقليدي المعروف ،عسى أن نتجاوز مرحلة الخطر الراهن واللاحق، دون مبالغة أو فلسفة مرهقة.
أجل من الشوك المعاصر، ومن أبرزه وأخفاه أحيانا، عدم الحكم بما أنزل الله، ولا يعني هذا أنني أدعو إلى تطبيق دون تدرج أو مراعاة للزمان والمكان والخصوصيات المختلفة، لكن مبدأ الاعتراف والإصرار على الوقوف عند الحق وحده، ممثلا في المحجة البيضاء "الإسلام الخاتم الشامل الجامع"، هو المطلوب بالدرجة الأولى، من قبل الحكام والمحكومين.
فإذا كان الغرب علمانيا فجا ،أو متدينا أحيانا مع تحريف الأصل الديني، فإن الشرق المسلم والمغرب المسلم وغيرهما من مواضع الإسلام وبقاعه في هذا العالم، جدير بالعودة إلى الله والإقبال عليه، ذكرا واستغفارا وقياما وقومة شاملة لهذا الدين على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الصحيحة الشارحة المفصلة لمعاني كتاب الله: القرآن، الذي أنزله الله من فوق سبعة أرقع طباق، عن طريق الأمين، جبريل عليه السلام،على قلب الأمين محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما استمرار الخداع ومخادعة النفس قبل محاولة مخادعة الخالق، بتطبيق بعض الكتاب وجحود أو تجاوز أو إهمال البعض الآخر، فذلك محض طريق اليهود، ولا يؤدي إلا إلى لنفس مصيرهم المغضوب عليهم، كما ورد في السبع المثاني: الفاتحة.
إن إعلان الحكم بما أنزل الله والتمسك بذلك مهما كانت التحديات، قولا وإيمانا وفعلا، هو رأس مال الاستقامة، وعمق رصد المخاطر برمتها والاهتداء إلى المخارج كاملها: دنيويا وأخرويا.
قال الله تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"
"وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون"
"وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ".
ولا أريد أن أتحدث عن العودة الفورية بأسلوب مباشر أو غير مباشر لتطبيق حدود بعينها، وإنما أترك الأمر لأصحاب الاختصاص، قال تعالى جل شأنه: "فأسأل به خبيرا"، وهي القاعدة العامة في سائر المجالات ،وعلى الأقل يدخل فيها دخولا بينا واضحا جليا، باب الفتوى، المختص بأولي العلم، من العارفين العالمين بالشرع والواقع معا.
فالدساتير كلها والقوانين كلها ينبغي أن تكرس هذا المعنى بصراحة، وهو الدخول في الإسلام كافة عقيدة وسلوكا، ومعاملات بجميع صنوفها.
وهنا أضطر للقول صراحة: ديننا ليس كهنوتيا، فهو دين يسعى بالعبد للسعادة في الآخرة ،دون نسيان الدنيا، كما قال ربنا في الخطاب لداوود عليه السلام: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". وقال تعالى تأكيدا لشمولية المنهج الإسلامي: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ".
وعود على بدء أقول في التقوى، البركة والنماء والأمان بالمعنى الواسع دنيويا وأخرويا، مرتبط بالحرص عليه، قال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"، وقال جل شأنه: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُمِنْ أَمْرِهِ يُسْراً "، وقال سبحانه وتعالى: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ"، وقيل في الأثر" اتق الله ترى عجبا"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصحا لأبي ذر الغفاري: "اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن".
وعندما يتعلق الأمر بالانحراف والترف والحرص على الزعامة والمسؤولية من دون أداء أمانتها والتنازع على ذلك كما هو الحال، استسهالا للمسؤولية وعدم إدراك لجسامة وخطورة الأمانة " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"، حيث أن المسؤولية تكليف قبل أن تكون تشريفا، يكون العكس، حيث قال الله تعالى في هذا الصدد المعاكس للتقوى وبروايتين للآية: الأولى المتداولة عندنا، بفتح الميم من دون شدة، والثانية بفتحها مع الشدة: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا".
فالعلاقة طردية مترابطة بين التقوى والبركة من جهة، والترف والانحراف والدمار والإهلاك بمختلف صنوفه من وجه آخر.
إذن، لم يعد مصدر الخطر في ديار المسلمين غامضا، فهو بوجه أو بمستوى ما، مدى الابتعاد والقرب عن أمر الله وشرعه.
وهذا الاختصار مجمل مفيد، ولا يحتاج إلى كثير من الشرح، ومن جحده جحد مفهوما صريحا، من شرعة الرحمن ومحكم تنزيله.
أما إذا كانت الشريعة تبعث على الاستحياء السلبي والخجل منها، أي عند إعلان التشبث بها، والانحراف عصري أو "مودرن" بالفرنسية، مطلوب بإلحاح للتوائم والتوافق مع الوضع المعاصر، إجمالا واختصارا، والزنا لا يثير غضاضة ولا يقشعر له جلد مسلم يدعي الإيمان بسهولة، أما الربا سواء كان معلنا تحت يافطات مصرفية مرخصة، أو باسم ما يسمى "شبيكو"، فعملية منه واحدة أكثر خطرا من الزنا بأم صاحبه بنفسه، على ظهر الكعبة ثمانية وثلاثون مرة، ولا يقوم صاحبه إلا كما يتخبطه الشيطان من المس. فهذا الربا كما تعلمون لم يعد يثير كثير حرج، لدى السواد الأعظم من المسلمين في هذا الزمان، وحتى في بلادنا بوجه أخص.
أما التبرج والاختلاط، وللأسف البالغ، وخيانة المحصنات وانتشار السحر والقتل أحيانا والتولي الصريح يوم الزحف بتخلي الأمة عن ميادين معاركها الواضحة، مثل ساحة تحرير الأقصى الأسير، فهذا كله ،ولو دون مراعاة للترتيب في سردي هذا، فهو انحراف واضح، وتلاعب بين بأمر الله وشرعته، لن يترتب عليه طبعا إلا المزيد من المخاطر وتعقد وغموض المخارج، ابتلاء من الله للمتساهلين بحدوده وحرماته، فهل ننتبه قبل فوات الأوان؟
ولله الأمر من قبل ومن بعد.