تعليق قانوني على كتاب القضاء للفاروق (2) / بون سيدن

المبدأ الثاني : الفصل بين سلطة تحريك الدعوى وسلطة الحكم
قبل الشروع في الحديث عن سلطة تحريك الدعوى والفصل بينها وبين سلطة الحكم في النظام القضائي الإسلامي , قبل  ذلك ننبه إلى أن معظم مسائل هذا الباب ( إجراءات التقاضي )

 هي مسائل اجتهادية تخضع لاختلاف الزمان والمكان وتباين حاجات كل مجتمع ومتطلباته ؛ لذلك شهدت تطورا كبيرا على مستوى التنظير والتقنين تبعا لتطور المجتمعات البشرية وتجدد حاجاتها التشريعية .
ولئن كانت جل الأنظمة القضائية اليوم تواضعت على تقسيم المرفق القضائي إلى قسمين ؛
- قضاء حكم يصدر أحكاما فيما يعرض عليه من قضايا ويبت فيها , وليست له سلطة تحريك الدعوى من تلقاء نفسه ولا ينظر إلا في ما يصله وفق مسطرة قانونية محددة , ويسمى القضاء " الجالس"  أو قضاء الحكم .
- وقضاء اتهام يعمل على خدمة المجتمع ويسعى لمعاقبة الخارجين على سلطة القانون , ويتولى تحريك الدعوى الجزائية بصفته يمثل المجتمع بأكمله , وهو طرف في الدعوى يمثل الحق العام ويسمى القضاء " الواقف " أو الادعاء العام في بعض الأنظمة القضائية  .
هذا بالإضافة إلى قضاء تحقيق هو أقرب لقضاء الحكم إلا أن سلطته محصورة في البت في إجراءات التحقيق والنتائج المترتبة عليها .
وإذا كان هذا التقسيم محل اتفاق بين جل الأنظمة القانونية , فإن النظام القضائي الموريتاني لم يخرج عن هذا الإجماع ؛ فقد كرس ذلك في المواد : 1  , 11  , 26 , من الأمر القانوني رقم 012/2007 الصادر بتاريخ 8 فبراير 2007 المتضمن قانون التنظيم القضائي , وفي المادة التمهيدية من الأمر القانوني رقم 036/2007 التضمن مراجعة الأمر القانوني رقم 163/83 الصادر بتاريخ 9  يوليو 1983 المتضمن قانون الإجراءات الجنائية  , التي نصت على وجوب الفصل بين سلطة تحريك الدعوى وسلطة الحكم .
والمتمعن في تاريخ الدراسات القضائية والقانونية يدرك أن هذا الفصل بين سطلة الاتهام وسلطة الحكم ـ على ما له من أهمية في تحقيق العدل وتكريس دولة القانون ـ ليس وليد الفكر القانوني الحديث ـ وإن كان هذا الأخير عرف تطورا كبيرا في القرنين الماضيين ـ بل هو قديم عرفه النظام القضائي الإسلامي ونظر له الفقهاء المسلمون ؛ وقد أشار إليه الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بقوله : ".. فافهم إذا أُدلي إليك .." وبناء الفعل للمجهول يدل على أن من يرفع الدعوى ويدلي بها ليس هو من ينظر فيها ويحكم عليها .
ويعضد ذلك أن  الفاروق ـ رضي الله عنه  ـ أنشأ أول قضاء واقف عرف بسلطة الاحتساب وأوكل رئاسته إلى الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية رضي الله عنها , فكانت تراقب السوق وتضبط الموازين وتعاقب من يخالف النظام العام .
وقد تطورت فكرة الاحتساب من عمل جماعي يقوم به عامة الناس , إلى جهاز منظم يسير وفق آلية محددة ويتم تعيين من يقوم عليه من قبل القائم على أمور المسلمين أو جماعتهم
ومع تطور الاجتهاد الفقهي الإسلامي اهتم الفقهاء أكثر بفكرة  الاحتساب ونظروا لها على مستوى التأصيل والتطوير ؛ وبسطوا ذلك في مؤلفات منها على سبيل المثال :
- الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي ، الشهير بالماوردي (المتوفى :  450 هـ )
- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم بن علي بن محمد، ابن فرحون، برهان الدين اليعمري (المتوفى :  799هـ)
وغيرهم كثير ممن اهتم بهذا المجال وألف فيه .
وخلاصة تعريفهم لدعوى الحسبة أو شهادة الحسبة ؛ أنها هي الدعوى التي تتعلق بحق من حقوق الله عز وجل أو بمصلحة عامة  ومن يقوم بهذه الدعوى قد يكون شخصا عاديا ( لم يكلف من السلطة للقيان بذلك  ) ويسمى " متطوعا " , وقد يكون معينا من ولي الأمر للقيام بذلك ويسمى حينئذ " محتسبا" , وهذه الدعوى هي نفسها الدعوى العمومية  في الأنظمة القانونية المعاصرة وتسمى بدعوى الحق العام , وتتولى النيابة العامة تحريكها كما أسلفنا .
ولا شك أن موضوع الدعويين واحد وإن اختلفت تسميته من نظام لآخر ؛ فالفقهاء يسمونه حقا لله تعالى ومعنى ذلك أنه لا يمكن التنازل عنه  ولا إسقاط  العقوبة المترتبة على انتهاكه ولا استبدالها بغيرها إلا إذا نص الشارع على ذلك , والقانونيون يسمونه بالحق العام ؛ أي أنه حق للمجتمع جميعا وتقوم مصلحة الجماعة على الحفاظ عليه , غير أنه يمكن التنازل عنه إذا دعت مصحة الجماعة إلى ذلك .
ختاما فإن الفصل بين سلطة الاتهام والحكم يعد اليوم ضرورة لقيام دولة القانون والعدل ويساعد قضاة الحكم في تكييف القضايا ويسهل معاقبة المجرمين ومتابعة تنفيذ أحكام القضاء  .

18. سبتمبر 2017 - 9:18

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا