لعل أكثر ما يغيب في تناول القضية الحرطانية- مع كثرة الخوض فيها وتشعبه- هو الحديث عن المستقبل الاستراتيجي لهذه القضية، فرغم أن أطرافا عديدة، ما بين سياسيين وحقوقيين وكتاب ومثقفين، يتحدثون بشكل دائم عنها، ورغم أن أساليب مختلفة سلكت للدفاع عنها.
كما سلكت أساليب أخرى للالتفاف عليها: رغم كل ذلك فإن الحديث الاستشرافي عن هذه المسألة الذي يتخذ من استقراء المتغيرات الاجتماعية والديمغرافية والثقافية وحتى السياسية التي يعرفها البلد ظل هو الغائب، مع أنه لو لجأ إليه لخفف كثيرا من حدة الخلاف.
دوام الحال؟
ويتعين الحديث عن المستقبل الاستراتيجي لهذه القضية نظرا لأن جملة المتغيرات السابقة التي لا شك أنها ستأخذ خلال فترة زمنية في حدود نحو نصف القرن تغيرا جذريا سيكون لها دور كبير في تغيير آليات التدافع حول المسألة ونقلها من طور المطلب التحرري إلى طور المطالب السياسية والاجتماعية العريضة. وفي ما يلي نعرض لبعض هذه المتغيرات التي -وإن اختلفت بداياتها- إلا أن نهاياتها خلال الفترة المرصودة ستصب في تغير كبير في مكانة الحراطين. أولا: المتغير الديمغرافي: مع أنه من المتفق عليه حاليا أن الميزان الديمغرافي داخل المجموعات الموريتانية يميل لصالح الحراطين فإنه خلال هذه الفترة، وطبقا لنسبة التكاثر السكاني عند كل مجموعة، لن يتوجه إلا إلى مزيد من الانحياز لصالح مجموعة الحراطين، ولاسيما بالمقارنة مع المجموعة البيظانية خاصة إذا أضفنا لعامل النمو الديمغرافي عامل الهجرة المتنامي داخل أوساط البيظان، والذي يصل في بعض حالاته إلى إقامة نهائية في بعض المهاجر. وفضلا عن الانعكاس السياسي لهذا المتغير، الذي سيأتي الحديث عنه عند الحديث عن المتغير السياسي، فسيكون لهذا الوزن الديمغرافي انعكاس في احتلال مكانة أكبر في دواليب الدولة والمجتمع والحياة العامة؛ لأن الحجم الديمغرافي المتزايد للحراطين سيفرض دورا أكبر نتيجة حصول فراغ لم يعد الطرف المتناقص ديمغرافيا قادرا على ملئه. ثانيا: المتغير الثقافي: المتغير الثاني الذي سيكون له دور في قلب المعادلة لصالح القضية الحرطانية هو المتغير الثقافي فإقبال أبناء هذه الشريحة على التعليم يتضاعف، ومثقفون بارزون يظهرون في صفوفها، وكل هذا سيتخذ منحى تصاعديا عبر السنين، وسيتجلى تأثيره على القضية في بعدها الثقافي بانتشار الأفكار التحررية على أوسع نطاق داخل الشريحة، ومن ناحية أخرى سيرفع من سقف المطالب التي لن تبقى تحت سقف المطلب التحرري والاجتماعي وإنما ستلامس سقوفا أعلى سيكون من بينها التمثيلية السياسية المتناسبة مع الحجم ومع الدور. وفضلا عن هذا التمظهر للمتغير الثقافي داخل الشريحة فهناك تجل آخر له هو انتشار الثقافة الحقوقية على المستوى الوطني والعالمي، فثقافة الحرية والحقوق والنضال السلمي التي تنتشر بسرعة عبر العالم سيكون لها كلمتها خلال هذا المدى المحدد أعلاه، فلن يكون من المقبول خلال هذه الفترة أن تكون شريحة بهذا الحجم وهذه الأهمية تعيش تهميشا من أي نوع ناهيك عن نوع التهميش الفاحش الذي يعيشه الحراطين حاليا. ثالثا: المتغير السياسي الذي ينتظر أن يكون هو "الثابت" في المدى المذكور بشيوع الوعي السياسي وحرية الأفراد في قراراتهم وضعف تأثير القوى التقليدية، وهذا -لا شك- واضح التأثير في المجال الذي نتحدث عنه نظرا لأن من أكثر الناس تضررا حاليا بالضغوط السياسية هم أفراد هذه الشريحة بسبب حاجتهم ومكانتهم، ونظرا لأن الحجم الانتخابي لهذه الشريحة سيعطيها أهمية كبيرة لدى الساسة، هذا إن لم تصل هي نفسها لاستثمار قوتها لصالحها. ولعله يحسن هنا أن نتذكر الخطوات الكبيرة التي قطعها الحضور السياسي لهذه الشريحة خلال العقد الماضي للتدليل على حجم التغير المنتظر؛ فخطابات النائب مسعود ولد بلخير في البرلمان بعد تمكنه من دخوله في 2001 (والتي أدت إلى حل حزبه حزب العمل من أجل التغيير لأن نظام ولد الطائع لم يحتملها) هي نفسها التي نسمعها اليوم على لسان كل نائب حتى نواب الأغلبية، والرجل نفسه الذي كان دخوله لحزب "بيظاني" بعد ذلك بأشهر "مفاجأة العصر" وقفت خلفه في انتخابات 2009 عدة أحزاب وتكتلات "بيظانية" كمرشح للرئاسة، وحل ثانيا في السباق الرئاسي، وفضلا عن هذا برزت خطابات أكثر حدة من خطاب مسعود حول القضية ومع ذلك وجدت لها قبولا ومكانة عند أطراف عديدة في الطيف الوطني. رابعا: المتغير الاجتماعي: وهو تغير المكانة الاجتماعية للشريحة في سلم المجتمع كشريحة وكأفراد نتيجة تغير وضعها الاقتصادي والثقافي وتخلخل عمادات التراتبية الاجتماعية القديمة، وهذا التغير في التراتبية الاجتماعية سيكون له انعكاس في الأدوار سواء المهنية والحرفية أو الأدوار المجتمعية وكل ذلك سينعكس في رفع سقف المطالب وفي رفع حجم الحضور العام لهذه الشريحة.
"المفروظة واسيها خصلة"
وبعد: فقد كان المراد من هذه القراءة أن يساعد استشراف مستقبل هذه القضية على البدء في وضع حل توافقي حولها من الآن، لأن من يراجع كثيرا من الآراء حول هذه المسألة يتخيل له أن أصحابها ينطلقون من جمود ما هو كائن على حاله. أما كيف ستساعد هذه القراءة على الخروج بحل أمثل، فأولا لأن معرفة الطرف الذي يستكثر حصول هذه الشريحة على بعض حقوقها أن مسار الزمن قد يغير من سقف هذه الحقوق سيدفعه لقبولها، أو بعبارة أوضح وأصرح: إذا علم البيظان أن خط سير التاريخ سيقلب المعادلة يوما ما ضد سيطرتهم وأنهم قد يجدون أنفسهم أقلية تطالب بحقها فسيعلمون أنه من الأفضل أن يحصل الحراطين على حقوقهم بصورة توافقية من أن يحصلوا عليها نضالا. وبالمقابل، فإذا اطمأن أصحاب الطرح الراديكالي (والكلمة هنا لا تحيل إلى شحنة سلبية وإنما هي مجرد وصف تمييزي) أن "الزمن جزء من الحل" فقد يخفف ذلك من لجوئهم إلى الوسائل الراديكالية التي يدفع لها عادة الشعور بضرورة "اختصار المسافة". فإذا استعد أولئك للتنازل عن بعض "امتيازاتهم" من الآن، وساعدهم هؤلاء بخطاب تسامحي فسوف نتمكن معا من مسايرة خط سير التاريخ ليوصلنا معا إلى محطة مقبولة للجميع.