هناك أشياء عديدة لا تُدار بعقلية الانقلاب، ولا تقبل منطق المصادرة، فقد تُنْتَزع السلطة بالقوّة، وقد يُدرك المال بالحيلة، ولكنّ لذغدغة المشاعر وتحريك العواطف في النصوص الجمالية منطلقات أخرى تختلف تماما.
من هذه الناحية اجتمع بعض شعراء البلد المبدعين، يساعدهم بعض السّند النقدي المحترم، ويعزّزهما بعض المشجّعين السياسيين"الأشاوس"، اجتمعوا ليعدّوا نشيدا "وطنيا" قد لا يختلف اثنان من المواطنين الموريتانيين في الحاجة إليه حين تكون الظروف مواتية.
ولأنّ هؤلاء اجتمعوا في جوّ بعيد عن الإجماع الوطني، جوّ خانق يطبعه التجاذب والاحتقان، جوّ يحقّق رغبة طرف واحد، استعذب دائما ثقافة الانقلاب والمراوغة السياسية لفرض إرادته على الشعب وبعض مؤسّساته الديمقراطية، بل على روح القانون ونصّه أيضا، اجتمع هؤلاء إذن ليكتبوا نشيدا وطنيا، فكتبوا نشيدا على كلّ حال، لكنّه لا يبدو وطنيا، بدليل استقباله في الوطن بالشتائم واللكمات وبالتهجين والركلات من قبل جناح عريض من المواطنين الموريتانيين.
ومع أنّ النشيد الجديد ـ إن صحّ أنّه هو النشيد المقترح بالفعل ـ في بعض جوانبه يستحقّ الثناء، لكنّه في كثير منها أهلٌ لما استُقبِل به، وخصوصا أنّه صادر عن قامات شعرية كبيرة كان ينتظر منها ما هو أجمل وأعمق، لكنّني مع ذلك على يقين أنّه لو كان كُتِب في ظروف غير هذه لنال ـ على علاّته ـ من التزكية والرّضى الشيء غير القليل.
إنّ النشيد عموما جزء من الشعر، وإن كان يتطلّب قوّة الألفاظ وتصاقب الأصوات وفاعلية الإيقاع ممّا يولّد الحماس وقابلية الإنشاد، بيد أنّه يتطلّب أيضا ما تحتاجه القصيدة من عمق المعنى والبنية النفسية والسياق العام واللعب اللغوي بما يضمن له الجمال الفني والتألّق الفكري.
فالنشيد المثالي ـ بهذا المعنى ـ هو الذي يستطيع أن يلملم أطراف هذه المعادلة، ليبلغ مداه، ويحقّق غايته. ومن هذه الزاوية تقتضي الموضوعية القول مبدئيا بإنّ استراتيجية الحماس في النشيد الجديد بادية من حيث قوة الإيقاع المتمثّلة في وزن المتقارب الذي هو بحر إنشاد، يسير الأداء حلو الغناء، ومن حيث التراكم الصوتي الحر في التشاكل الصرفي (الأباة، الهداة ـ حماك، فداك) وفي التجنيس ( العسر ـ يسرا، وعدا، سعدا) وفي التكرير (نكسو رباك بلون الأمل)، وفي التوازي ( سنحمي حماك... ونكسو رباك...) وكذلك من حيث التراكم الصوتي المقيّد، ممثّلا في تنويع القافية: (يضام، السلام ـ الأمل، أجل ـ مستقرّا، يسرا...) ممّا يوسّع دائرة الإيقاع، ويسمح بتناغم الأصوات وتصاديها.
وثمّة تراسل مقبول على صعيد المعنى، فنسيج الجمل مغزاه واضح، ولا أحد ينكر دوره في رصد المحور الذي يدور عليه النص، (فبلاد الأباة الهداة الكرام) هي موريتانيا، وكل القيم الإيجابية ومعانيها المتناسلة التي وردت بعد ذلك تدخل في نطاق سبر الموضوع وتقسيمه، ولهذا فالنص ذو بناء جامع، وميكانيزم يتشابك ـ رغم تشتّته ـ متحرّكا نحو استدعاء التاريخ عساه يسهم في صياغة الحاضر، وصناعة المستقبل.
ثمّ إنّ للتمجيد ـ حدّ المبالغة ـ داخل النشيد قيمة لا بأس بها، إذْ لا تكتب الأناشيد عادة في العالم إلاّ لتمجّد الأمم والشعوب، وتسجّل مآثرها، وأيّامها الخالدة، وأياديها البيضاء: (موريتان ربيع الوئام، ركن السلام، سقينا عدوّك صايا ومُرّا، قفونا الرسول بنهج سما...)، ولو أنّه تمجيد من باب: "تفاءلوا خيرا تجدوه"، ولا غرابة في ذلك، فما دام النشيد جزءا من الشعر، فقد قيل قديما: "أعذب الشعر أكذبه".
ولكنْ خارج هذه النواحي المقبولة تعتور النشيد اختلالات جمّة تكاد تقضي على ما حمل من إيجابيات.
فالخطاب الشعري بشكل عام ـ ومنه النشيد ـ ما زال كما كان من قبلُ، جوادا جامحا، كلّما وقع تحت رسن السلطان ذلّ ـ إلاّ في استثناءات قليلة على قدر عبقرية المتنبّي ـ ولذا فلا ينتظر من نشيد كتب تحت الطلب، ولم يأت عفو الخاطر من أصحابه، وإنّما دفعوا إليه دفعا ـ مع احترامنا لهم جميعا ـ إلاّ أن يكون ضعيفا، تهمين عليه لغة التنميق، ويخلوّ من "جنون" الشعر، ، وتغشاه الاستعارات الباردة.
والحقيقة أنّ ثمة نوعا من الغرابة والإدهاش يصعب تحديد مكانه، ويستحيل القبض على مصدره، ولكنّه مع ذلك هو مكمن العبقرية وروح الشعر وجوهره، فهو الذي يولّد حالة من الانجذاب اللاإرادي والعاطفة العفوية، وإذا خلا منه الشعر تحوّل إلى جثّة هامدة لا ينفعها الطلاء ولا تجديها المساحيق، وهذا النشيد للأسف نبتة ذاوية تحتاج الماء وينقصها الهواء.
إنّ النشيد ـ بهذا المعنى ـ عبارة عن جملة أفكار عتيقة بلغة عادية لا تحمل الانفعال الذي يسيطر على الحواس، ويجعل نبضات القلب تنتظم والأنفاس تتتابع وكأنّها موسيقى نفسية داخلية، إنّه للأسف لم يرغم عواطفنا على الاتصال بموضوعه، ولا هو صهر موضوعه ليجعله جزءا من عواطفنا، فحال الانقطاع الوجداني قائم بينه وبين قاعدة التلقّي.
وقد جاء تركيبه المعجميّ باهتا، فسيطرة الجمل الفعلية ( سنحمي حماك، نماك الأماجد، سقينا عدوّك، قفونا الرسول، حجزنا الثريّا، أخذنا عهدا...) التي احتلّ المحمول فيها ـ وهو الفعل ـ مركز الاهتمام جعل التراكيب أصلية محايدة لا تتضمّن أيّ إيحاء تداولي، بعكس الجمل الاسمية القليلة التي أحدثت تشويشا في الرتبة استدعى نوعا من التبئير وفاعلية المقوّم (بلاد الأباة، بدور سمائك، شمس جبينك...)
وزيادة على ذلك كانت بعض الألفاظ عتيقة (صايا) وباردة (نلبّي أجل)، تشي بعجز لغة الخطاب عن التجذّر في العصر، وتحيل إلى نوع من التكلّف والجمود يخالف السلاسة والشاعرية.
وإذا نظرنا إلى جانب التخييل الذي هو أساس الشعر، وتعتبر الاستعارة فيه حجر الزاوية، طالعتنا استعارات قليلة تمتطي التوتّر وتخرق قوانين التركيب العادية، لكنّها مع ذلك لا ترقى إلى ها هو أبعد في خلق قوانينها الخاصة بها، بقدر ما تلحّ على المعنى المتبادر إلى الذهن ممّا هو مألوف عند الناس
ثمّ ما قيمة الخطاب الشعري إذا لم يحمل تحدّيا لأوجاع الحياة، ومواجهة لشراسة المحن، بهدف تحسين حياة الناس، وتلطيف الأجواء، ونزع فتيل التوتّر والاحتقان. ونحن شعب لا يحتاج اليوم إلى شيء أكثر من حاجته إلى تبنّي هذه المبادئ لنصلح بها حالنا، ونرمّم بها تشطّينا؟
لو أنّ هذا النشيد استهجن العنصرية، واستنكر التراتبية، وتحدّى القبلية، وواجه الرشوة والمحسوبية، لو أنّه مجّد العدل وتشبّث بالمواطنة وكرّس الديمقراطية ودعا إلى الوحدة والانسجام، لكان عزف على الوتر الذي يهمّ الوطن حقيقة، وساهم في إيجاد حلول لمشاكلنا المزمنة والمعقّدة، خصوصا أنّه يراد من أبنائنا غدا أن يردّدوه يوميا في المدارس والبيوت، وأن يكون لهم بمثابة دستور مصغّر وأنشودة حياة. كان ذلك الهدف أجدى عندي كثيرا من ترديد عنتريات لم تجد سبيلها إلى الواقع يوما (قفونا الرسول)، ويا ليتنا فعلنا، لكانت حالنا غير هذه، (سقينا عدوّك صايا، حجزنا الثريا لنا سلّما، حملناك وعدا) وهذه مجرّد ادّعاءات لا تسمن أو تغني من جوع، أو تخرج من مستنقع التخلف الآسن الذي نتردّي فيه منذ وقت طويل.. ثم هل نسي هؤلاء أنّنا نردّد منذ ما يزيد على قرن بعض هذه العنتريات حتّى لكأنّها أصبحت بطاقة هوية لنا ومنها:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجلّ ذا العصر قدرا دون أدنانا؟
فهل تلك حقيقتنا بالفعل أم أنّها النرجسية والغرور والبطر؟! ثمّ ماذا حقّقنا بهذا التعالي في واقع حياتنا المعيشة؟
وثمّة هشاشة أخرى على صعيد آليات توليف المعجم، نظرا لتشتّت مصادره وتباين منطلقاته، وفوضوية المنهاج المعتمد في التداعي والتناسل، ولهذا جاءت الكلمات منعزلة وإنْ في فضاء موحّد، وبالتالي يصعب وضع اليد على تردّدات متساوقة تقود إلى رصد حقول دلالية كبرى تفي بالغاية الشمولية التي أراد النشيد الوصول إليها، وهذا بدوره أدّى إلى ضعف انسجام النص، وترهّل نسيجه الداخلي.
وعموما فإنّ الخطاب في هذا النشيد يتّسم بسكونية فكرية لا تشاكل حركة واقعنا المضطرب، ويصف أحوالا طوباوية تختلف عن حياتنا المتأزّمة، وليس خطاب توتّر آسر، يتوسّل بالانفعال ليتّصل بالحقيقة.
مشكلتنا إذن ليست في النشيد ولحمته الفنية، أو عدسته التصويرية أو تأثيره اللغوي، أو قوته الإيقاعية. مشكلتنا في ذواتنا وكيف تلتحم، لتخلق لغة للتفاهم مشتركة، وقاعدة للانسجام مع إيقاع الواقع المتغيّر وتحدّيات الحياة، وقبولا بالأخر واستماعا إليه، باعتباره جزءا أصيلا من هذا الوطن، لا يمكن إلغاؤه أو الاستغناء عنه، بدعوى ديمقراطية كسيحة عرجاء، فما لم نوجد نحن بهذا الشكل وجود الفعل والفاعلية، لا وجود القوة والسلبية، ما لم نوجد وجود الحقّ والجمال والعدل والإنصاف، فلن ينفعنا جمال نشيد من أيّ نوع كان أو قبحه، حتى ولو قام المتنبّي من قبره ليكتبه لنا.