مرة أخرى يلبس نفر من السّياسيين في البلد أثوابا قدت على التملق غير التي كان يرتدي، و تأخذ السياسة منعطفا جديدا من الخطورة بمكان؛ منعطف تختلط فيه الأوراق ثانية و تَحبل الساحةُ بصراعات الأضداد المريرة؛ وزراء و مسؤولون تمت إقالتهم أو عزلهم أو قد أبلغوا على حين غرة بالاستغناء عن خدماتهم فأحسوا بالإهانة ليشرعوا في التمرد بعد "صمت الغريق" الذي يمسك بـ"قشة التوهم" أول المرة أنها ستعيدُه إلى جزيرة الصّفح و منتجع الرضا
و إعلان العودة الميمونة إلى الاحتضان، لكنها الأماني التي تبدأ بعد مُضي الوقت في "عَرض اليَم" بالتآكل لتدب قَشعريرة الخوف من الفناء و يتعالى الصراخ و تبرز الأنياب و تصدر اللعنات من الصّدور المتورمة و الحناجر المجروحة و الأفواه الفاغرة. نعم إنه الاصطفاف من جديد في مجهول التحول إلى الصف الآخر و إعادة التّموقع على ندبة الجرح الغائر و بقايا نصل طعنة الصدمة المباغتة.
هي السياسة عندنا هكذا مبنية على المصالح الأنانية و خيانة المنطلقات من دون الأسى، المنطلقات التي تبدوا في الطرح و التنظير حاملة وجه الحقيقية و نبل المبتغى يُعلن عنها في بداية المشوار و قبل أن تصبح بلمح البصر مطية ذَلولا للوصول إلى غايات أنانية مادية بحتة يجري الطوفانُ من بعد جني ثمارها المسروقة.
و ليس العكس بغير الصحيح حيث تنقلب بعضُ الأوجه السياسية في صفوف الصف الآخر من أحزاب المعارضة لتعلن عن توبتها من "الشرك السياسي" و إثم "حرية الموقف" و لتلتحق بصومعة الحزب الحاكم أو منابر الأحزاب الأقرب إليه من تشكيلات الأغلبية. و حين ذلك يُلمس عن كثب استعدادُ هؤلاء المارقين لكيل الشتائم و توجيه النقد اللاذع و الاتهامات القاسية لكل من كانوا إلى لحظة تبرمهم أصحابَ الدرب و المفوضين بالنطق بضمائرهم.. إن كانت لتلك الضمائر من وجود.
و إنما هؤلاء الغاضبون الناكرون المنقلبون المارقون، و أولائك المداحون المتملقون و المنتفعون هُم من يمارسون جميعهم بنفسياتهم المضطربة حالة الإرهاب السياسي السائدة فيصور:
· الأولون أن الخراب قد حل بعد إبعادهم و أن تصرفهم أو كلامهم كشف المستور عن ضعف الدولة و هوانها بما يشوبها من الفساد و ينتشر في أضلاعها من الحيف و الظلم و ما يؤخرها عن الركب الإقليمي و القاري و العالمي من علامات التخلف و الارتكاس،
· و الآخرون أنه من ذكر أيَّ شخص خلاف الرئيس و من على شاكلته من المقربين إنما أتى نكرانا للمعروف وخيانة للوطن و خطرا على البلاد حتى لو كان ذاك الشخص رئيسا سابقا أو رئيس وزراء أو وجيها معلوم المكانة أو سياسيا مخضرما أو مثقفا واعيا، فيتسببون ـ إن لم يوضع حد لهم ـ في خلق حالة من الثنائية والجفاء المؤدي للقطيعة بين المتحمسين المخلصين لبناء الدولة - من كل الأطراف علما باشتراك المبدأ - و إحداث الشروخ بين قواعد القوى الحية و الفاعلة ومكوناتها إلى إضعاف ذلك لقصد و يشكلون سببا في خسارة الشرائح الشعبية المؤيدة لتيار المخلصين و البناة، الأمر الذي قد لا يتنبه إليه من هم في مواقع القيادة.
في هذا المنعطف الذي يتصف بأوجه التباين السلبي للمواقف السياسة في القراءة و التأويل و يشف عن حالة غير صحية من الشطط و البعد عن الحسابات الكارتيزية التي لا تحفظ الوطن و لا تشرف أو تطمئن المواطن على سلامة مسار الحاضر و حسن استشراف المستقبل، و هي كلها علامات تؤشر على الحالة القائمة من ضعف النضج و اختلاط الأوراق على المواطن بما تتمخض عنه المواقف المتناقضة و المتنافرة لـ"لمنتجعين بين الموالاة و المعارضة و ما يصدر عن أحزابها من متناقض القول و منقلب الفعل، علامات تنذر بمرحلة من الاضطراب اللهُ وحده أعلمُ بغنى البلاد عنها و هي التي ما زالت بعد ستة و ستين عاما من الاستقلال تعاني من التخلف المزمن إدارة و تسييرا و تخطيطا و عجز عن استغلال مواردها الكثيرة في تنوع قل مثيله، و حياد الطبقة السياسة عن جادةِ طريقِ رفعِ تحديات قيام الكيان المتوازن، و ضعف الطبقة المتعلمة و المثقفة و العلمية عن حمل الوطن على محمل الجد و العبور به إلى مفاهيمية الارتقاء الصحيح في العصر الحديث.