عن الترجمة في يومها العالمي / محمد ولد إمام

 شخصياً أُشرِبتُ حبَّ اللغة منذ وقت مبكر جداً، عبر التعليم التقليدي المرتبط بالشعر والأراجيز، وتشعب ذلك الحب وامتدَّ إلى اللغات الأخرى، ومن هناك بدأ شغفي بالترجمة، خصوصاً مع شغفي بالآداب العالمية ومتعة قراءة النصوص الأدبية باللغة التي كُتبت بها.

وأتذكر أنني أنشأتُ ركناً للأدب العالمي في "منتدى المشهد الموريتاني"، كان ساحة للتدريب على الترجمة الأدبية وتبادل الاقتراحات مع النخبة آنذاك، 

إلا أن البداية الفعلية كانت خلال دراستي في جامعة عين شمس بالقاهرة حيث كانت مادة "الترجمة" في كل المراحل، وقد استهوتني جدا.

ومع الترجمة يزداد الاطلاعُ على الثقافات الأخرى وطرق التعبير المرتبطة بالخلفية الثقافية للكاتب، فنحن عندما نتعلم لغةً ما فإننا نتعلم معها ثقافة بأكملها ونظرة مختلفة للحياة وفلسفةً إنسانية مختلفة. وكلما تعمقنا في لغة فهمنا ما وراءها من تجاربَ إنسانية وثقافة، فالحقول الدلالية للكلمات والتعابير ترتبط ارتباطاً وثيقاُ بنظرة المجتمع للحياة وكذلك بعاداته ومعتقداته... إلخ.

والترجمة – من حيث هي أداة لنقل المعلومات المجردة – هي علمٌ دقيق ولكنها أيضاً فنٌ جميلٌ لنقل الآداب والفنون الجميلة، فحسب رأيي لكي نترجم الشعر ينبغي أن نكتب شعراً لا أن ننقل النص الأصلي حرفياً، ولكي نترجم رواية يجب أن نكون روائيين في ترجمتنا لها.. إلخ.
فمهمة المترجم أبعد ما تكون عن إحلال لغة محل أخرى.. إنه بفضل ما يتمتع به من موهبة أدبية، يقوم بتفسير هذه العناصر في ضوء الظرف الجديد وتحويلها إلى نص مولد. على النص الجديد أن يكون مقابلاً equivalent للنص الأصلي وليس نسخة طبق الأصل منه.  Top of Form 

فالنص الأدبي المترجم هو نص أدبي جديد. إن مترجم النص الأدبي شبيه بمبدع النص الأصلي لأن كليهما يرمي إلى تحويل الـ Geno text إلى phenotext. إلا أن هناك بعض الاختلاف بينهما، والاختلاف هذا يكمن في كون المترجم لا يتمتع بحرية اختيار عناصر الـ genotext كما هي الحال بالنسبة للكاتب الأصلي. وكذلك في أنه ملزم باحترام العناصر التي اختارها الكاتب الأصلي، والأكثر مـن ذلك، لا يسمح له بترك بصماته الذاتية على العمل الذي يقوم بترجمته. فمهمة المترجم الرئيسية هي أن يكون ناطقا ً أمينا ً بلسان الكاتب الأصلي.
باختصار يختلف المترجم الأدبي عن الكاتب من حيث أنه يتعامل مع مادة محددة وبطريقة محددة، إلا أنه يلتقي مع الثاني من حيث أن الاثنين يجب أن يتحليا بالموهبـــــة. إذا ما أراد المترجم أن يوصل صوت الكاتب وأفكاره بصورة أمينة فعليه أن يتقمص شخصية ذلك الكاتب، لا بل عليه أن يعرف الكثير عن عصر الكاتب.

لذلك فالترجمة تتطلب أكثر بكثير من إجادة اللغة، ففضلاً عن ذلك على المترجم معرفة الكثير عن الكاتب وظروف كتابته للنص الأصلي والمناخ العام السائد تلك الفترة وغيرها من الأشياء التي تساعده على "إعادة إنتاج أو خلق" النص من جديد، في حلته تظهره نصاً أصلياً لا نصاً منقولاً أو مترجماً فلا أسوأ من نص أدبي تقرأه فتحس بالمترجم فوراً.

فالترجمة الأدبية خصوصاً تتطلب امتصاص النص الأصلي وإعادة خلقه وإبداعه في صورة توصل الأفكار الأصلية لكنها تُلبسُها ثوباً أصيلاً من صناعة المترجم.

وأتذكر أن من أجود ما طالعتُ قديما ترجمات للأستاذ الزيادي، فعندما تقرأه لا تحس أنك تقرأ نصاً مترجماً وتلك علامةُ الترجمة الجيدة، فحتى إذا  نقل الكاتب الأصليّ نصوصاً دينية مثلاً من أديان أخرى، فعليك إيجادُ مقابلها في دين وثقافة اللغة التي تترجم إليها، وهنا أتذكر في أحد امتحانات مادة الترجمة طُلب منا أن نترجم عبارةً من الوصايا العشر هي:
“Honour thy father and thy mother” وكانت الترجمة الأحسن هي أن نكتب الآيةَ الكريمة:
" وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ" .. بدلَ أن نترجم العبارةَ حرفيا.

والترجمة ألوانٌ شتّى وفنون مختلفة وضُروبٌ متنوعة، منها التفسيرية والتحليلية والمتعاقبة والفورية .. إلخ.

ولكل نوع أساليبُه الخاصة، وفي بيئة العمل الميداني تظهر الإكراهات وضغوط الوقت وغيرها، لكن متعة الترجمة والدُّربة كفيلةٌ بتخطيها.
ويتعرض المترجم للكثير من المواقف الغريبة والطريفة أحياناً، سأكتب عنها بحول الله لاحقاً.

فالمترجم – كالطبيب – يُسأل دائماً ويستشار في أي وقت وعن أي شيء!


 

2. أكتوبر 2017 - 7:23

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا