استدارة التاريخ: النهضة الإسلامية و"الرجل الأوربي المريض" / المختار ولد نافع

 

altإذا نظر الإنسان إلى التطورات التي تمر بها حاليا المنطقتان الأهم على المستوى العالمي منذ فجر التاريخ (أوربا والعالم العربي) بمنطق البرقيات الإخبارية فسوف يقتصر فهمه لها على أنها بشائر ثورة سياسية في إحدى المنطقتين ونذر أزمة اقتصادية في الأخرى.

أما إذا تعدا ذلك إلى قراءة هذه التطورات بعين المتفحص في التطور التاريخي البشري المستحضر للسنن الكونية والدورات الحضارية فسوف يرى ما هو أبعد؛ ألا وهو ميلان كفة النهوض للمنطقة الأولى على حساب الثانية في دورة من دوران التاريخ العالمي الذي يكاد تطوره يكون منذ فجر الأزل قائما على حساب دقيق في نهضة الغرب على حساب الشرق أو العكس.

 

مفتاح القراءة التاريخية وما يجعل القراءة التاريخية ضرورية لهذه التطورات يكمن في "التزامن" الذي طبع هذه التطورات؛ أقصد تزامن بشائر ثورة غير مسبوقة في العالم الإسلامي وتحديدا في قاطرته الحضارية العالم العربي مع نذر أزمة اقتصادية كبرى في الغرب أو على وجه التحديد في قاطرته الحضارية أوربا، فهذه الأزمة الكبرى هنا لا بد أن تشل هامشا كبيرا من الفعل الحضاري للغرب لن يبقى فراغا لأن التاريخ والسنن الكونية لا تقبل الفراغ وهو ما يتيح للأمة الثانية في بواكير قومتها مجالا للتقدم لملء هذا الفراغ. ويتضح دور التزامن هذا عند المقارنة بين مراحل شهدت فيها المنطقتان بشائر ثورة ونذر أزمة ولكن من دون تزامن ولم يؤد ذلك لبروز قراءات تاريخية لتلك الأحداث فضلا عن حدوث تبدل تاريخي؛ فالأزمة الاقتصادية الكبرى التي شهدها الغرب في ثلاثينيات القرن الماضي لم تؤد إلى أزمة تاريخية ولم تقض على مكانة الغرب الحضارية لأنها حدثت في وقت كان فيها المنافس التقليدي له يغط في سبات حضاري -أو على الأصح غير حضاري- عميق، وبالمقابل لم تؤد "الثورات" التي شهدتها المنطقة العربية في خمسينات ذلك القرن إلى تبدل في ميزان القوة الحضارية لأن المنافس الغربي كان لا يزال في أوج قوته.

 

النهضة والمرض ينتمي هذان المصطلحان الحضاريان/السياسيان إلى القرن التاسع عشر عندما بدأ التجذر الحقيقي للنهضة الغربية التي تعود للقرن السادس عشر مقابل وصول انحطاط المسلمين إلى الحضيض، في ذلك الوقت كانت كل الأدبيات الفكرية تتحدث عن النهضة الأوربية بينما كانت الخلافة العثمانية التي تقود المسلمين توصف بالرجل المريض (استخدم هذا الوصف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) واليوم وأمام التطورات المتسارعة في المنطقتين يحق التساؤل: هل نحن أمام انعطافة تاريخية "ينهض" فيها العالم الإسلامي و"يمرض" الغرب؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من مقارنة بين بعض ملامح المشهد الحضاري في المنطقتين في الوقت الحالي وفي تلك المرحلة التاريخية.

 

المدبر لا يقبل لعل أول ما ينبغي الإشارة إليه هو أن مكمن خطورة الأزمة الاقتصادية التي تضرب أوربا حاليا هي أنها جاءتها في خريف عمرها الحضاري وهي تنهشها الأزمات المختلفة: الأزمة الاجتماعية المتمثلة في شيخوخة المجتمع وانهيار مؤسسة الأسرة، والأزمة القيمية المتمثلة في انهيار الثوابت الأخلاقية ووصول القيم المستندة إلى مبدأ المصالح إلى طريق مسدود، هذا فضلا عن ما يمكن أن يوصف بالأزمة الثقافية حيث أن الإنجاز الحضاري للغرب بدأ في التراجع لدرجة يمكن القول معها إنه حاليا يكاد ينحصر في الجانب التقني مع العلم إن تحليق أوربا في سماء الحضارة إنما كان بتساوق الجناح التقني والجناح الفلسفي والفكري. وإذا كان يقابل هذا الضعف دعائم قوة أوربا المعروفة فإن هذه القوة لا يمكن أن تشكل مناعة في وجه دبيب الشيخوخة، لأنها أشبه بتماسك بنية جسم الرياضي المتقدم في السن أو بالتعبير المشهور "الأسد الهرم" ولقد كانت الدولة العثمانية تتمتع بعوامل قوة لا باس بها خلال نصف القرن الأخير من عمرها ولكن عاملين من عوامل الانتكاس الحضاري قضيا عليها وهما ضعف الأداء العلمي و انعدام آليات لحل أزمة الحكم. ولتوضيح انعكاس الأزمات المختلفة على الأزمة الاقتصادية الغربية يمكن التمثيل بجانب من المبادئ القيمية حيث تحدث أحد الفلاسفة الاقتصاديين الغربيين المشهورين (لا يحضرني اسمه حاليا) قبل سنوات عن أن التنمية في الغرب تواجه أزمة لا يمكن حلها إلا بترشيد الاستهلاك ولكن هذا الحل الذي يعتمد على السلوك الفردي لا يمكن الوصول إليه إلا بانقلاب جذري في القيم الأخلاقية.

 

البلسم على مكمن الداء أما أفضل ما في الثورات العربية فهو أنها تعالج مكمن الخلل في التجربة التاريخية للمسلمين ألا وهو ميدان الحكم، فلقد كان أول باب دخل منه الضعف على قوة المسلمين هو الاختلال في علاقة الحاكم والمحكومين منذ بدأ الملك العضوض ينشب نواجذه في جسد الأمة، فقد كان هذا الخلل يقضي كل مرة على واحد من عوامل قوة الأمة فلم يدب الضعف في أداء الأمة العلمي إلا بسبب ضعف كيانها السياسي تحت ضغط تنازع الطامحين للحكم، وما تراجعت مكانها العالمية إلا بسبب تناحر الدويلات التي شهدها تاريخنا وما ضاعت أجزاء غالية من أوطاننا إلا لأن أمراء حرب سلموها للأعداء ومع أن الأندلس أكبر مثال فعلي على ذلك فهناك مثال أكثر رمزية ألا وهو أن السلطان الأيوبي الملك الكامل محمد ابن أخي صلاح الدين سلم القدس للصليبيين مقابل دعمه ضد أخيه الملك المعظم عيسى!! وأخيرا جاءت هذه الثورات من البوابة السياسية لتطلق بشائر إرساء تجربة في الحكم تعتمد المبادئ الإسلامية وتستفيد من التجارب البشرية (الأوربية تحديدا لننسب الفضل إلى ذويه) ومن ثم انطلاق دور حضاري جديد للأمة المسلمة ذلك أن تجاوز أي أمة للمعوق التاريخي في مسيرتها يتبعه دائما تقدم في تجربتها كما وقع للأوربيين بعد تجاوزهم لعقدة احتكار الكنيسة للعلم والسلطة فقد بدأت الاكتشافات العلمية تترا وجاءت بعدها الثورات السياسية بما حملته من دساتير ومبادئ حقوقية كانت في عصر ما قبل النهضة نوعا من الهذيان. فلو أن أمة الإسلام اليوم انتقلت بهذه الثورات إلى حالة نضج سياسي يدبر فيها الشأن العام بالتراضي وتحكم المجال العام فيه ثنائية حاكمية الشريعة وسلطان الأمة فسوف يتيح لها ذلك فرصة التفرغ لبقية أدوائها لعلاجها ومن ذلك مثلا تعزيز مكانتها العالمية وتحرير مناطقها المحتلة وعلى رأسها قبلتها الأولى المسجد الأقصى، كما أن الروح الوثابة وانتشاء النصر الذي تعيشه الأمة يمكن أن ينعكس نهضةَ فكرية خصوصا أن بوادر ذلك بدأ بعضها في الظهور في شكل "أسئلة المستقبل" التي تطرح حاليا بإلحاح من طرف عدد كبير من مفكري الأمة وكتابها، لكن الأهم هو أن هذه الثورات أثبتت أن العرب أمة ككل الأمم تنهض وتنحط وليست "قطيع همج" ولا ظاهرة صوتية وهو ما سيوفر جهود المعارك الفكرية التي كانت تنصب للدفاع عن الأمة لتتجه نحو الفعل الفكري بدل رد الفعل. ولعله من المهم في الختام التنبيه على أن هذا الحديث لا يعني أن تبدلا في مركز القوة الدولي سيحدث بين عشية وضحاها ولا أن أوربا ستسقط اليوم ليحل محلها العالم العربي، ولكنه من المهم أخذ هذه المؤشرات الكبرى على دلالتها الحضارية، كما أنه من المهم أيضا أن لا تلهينا الانتكاسات التي تعرضت لها بعض الثورات العربية ولا التي يمكن أن تتعرض لها أخرى لأننا الآن أمام تحول تاريخي لا يمكن لأي كان الوقوف في وجهه وتحضرني هنا كلمة قالها الكاتب التونسي (الرئيس التونسي الحالي ) المنصف المرزوقي قبل أسابيع في حلقة من الاتجاه المعاكس عن مستقبل الثورات العربية "إن الثورة الفرنسية احتاجت إلى قرن من الزمان عادت خلاله الملكية مرتين ولكنها في النهاية نجحت"

6. ديسمبر 2011 - 17:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا