إن الأمم الكبيرة ليست كبيرة بأعدادها، وإنما هي كبيرة بإنتاجها العقلي وسبقها الحضاري، وهذا وذاك لا تصنعه الدهماء، إنما تصنعه العبقريات الرائدة والبصائر النفاذة ولهذا نسعى دائما في بحوثنا إلى دراسة مجتمعنا من الداخل, مبتعدين قدر الإمكان عن الإجابات الجاهزة التي هي تكريس لما يكتبه الانتروبولوجيون الغربيون، عن مجتمعنا والذين يجهلون الكثير عنه,,,
وقد كتبت في هذا المجال بحوثا ومقالات تحت عناوين مختلفة مثل:العقول الموريتانية المهاجرة!!.. ومأساة المثقفين والمبدعين في موريتانيا!!........ الرابط::
http://www.rimnow.com/a136/4151-2015-06-18-17-46-13.html
وثقافة التحصيل بين الشناقطة الأوائل والشناقطة الجدد,,,, وهل ساهم المتقف الموريتاني في القضاء عليه؟؟!..........................................................الرابط :
http://www.mushahed.net/vb/showthread.php?t=26553
لكن كان لعملي الأخير مع العلامة حمدا ولد التاه والموسوم ب: تائه يبحث؟‼(1) دورا محوريا حيث شخصت من خلاله مجتمعي الفريد من نوعه فليس هنالك مجتمع ـ على كثر المجتمعات والمخلوقات (أكثر منه غرابة وغموضا، وأعظم منه تناقضا وتضاربا، فهو بدوي يحب الحضر، فقير يحب الغنى والخير، خاضع لناموس الموت والفناء، محب للخلود والبقاء ، كثير الحاجات دقيق الرغبات، عميق الهواجس والخواطر، بعيد الآمال والنظرات، لا تروى غلته ولا تشبع جوعته، حاجاته ومطامعه أكثر من أنفاسه، وأطول من حياته، وأوسع من أن يسعها هذا العالم المحدود)(2)
فلكل مجتمع ثقافته وعاداته وخصائصه التي أملتها عليه ظروفه ومحيطه ولأن مجتمعنا بدوي فقد كان لحياة البادية الطاعنة, وشح موارد العيش والتسيب السياسي عوامل من بين أخرى طبعت بنيته وميزته عن غيره من المجتمعات...
والثقافة بمعناها الواسع تشمل جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، مثل نظم القيم والتقاليد والعادات، ومثل الحقوق الأساسية إلى جانب الفنون والآداب وطرائق العيش.
إن تاريخ البشر يقول إن عهود الأزمات الاقتصادية والاجتماعية هي عهود المعالجات العملية لتلك الأزمات نفسها، إذ تنهض لها العقول المفكرة، محللة، معللة، وهكذا كلما عصف التاريخ بالأحداث الشديدة والاضطرابات المدوية قذف التفكير الاجتماعي الواعي بالآثار الفكرية الضخمة...
ومجتمعنا اليوم بأمس الحاجة إلى هذه العقول لتشخيص المجتمع الذي وجدنا أنفسنا فيه، وكما يقال إذا تزاحمت العقول خرج الصواب...
وحرية الفرد في المجتمع على قدر عمله، فإذا أخذ من عمل الآخرين مما يعطيهم من عمله، فقد من حريته بقدر ما يزيد لهم عنده، وأكثر الأفراد من يرون آثار عملهم فيما بين أيديهم من حاجات.. وأقسى ما يواجه الحر من عقبات أن يجد نفسه غريقا في عطاء الآخرين، وليس له ما يعطيهم، لشعوره بأن ذلك على حساب حريته
لقد أصبحت الأصول المهمة في الاقتصاد الجديد هي المعرفة الفنية، والإبداع، والذكاء، والمعلومات. وتقدر الأمم المتحدة أن اقتصاديات المعرفة تستأثر الآن 7 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتنمو بمعدل 10 ٪ سنويا..
وجدير بالذكر أن 50 ٪ من نمو الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي هو نتيجة مباشرة لاستخدام وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
يتم تقييم المجتمعات حسب تعليمها فهو المحرك الأساسي في تطور الحضارات ومحور قياس وتطور ونماء المجتمعات
فهل تفعل الدولة الموريتانية هذا العامل تأسيسا على حملاتها الحالية وترفع من معدلات تمويلها ودعمها لهذه القدرات؟ أم أنه إجراء عارض مثل الكثير من المشاريع المفصلية التي أصبحت في خبر كان...؟‼
يعتمد اقتصاد المعرفة اعتماداً أساسياً على نشر المعلومات واستثمارها بالإضافة إلى توليدها طبعاً , وهناك أنواع عديدة بشبكات المعرفة مثل شبكات الجامعات وشبكات مراكز البحوث وشبكات مؤسسات المعلومات كالمكتبات ودور النشر ومراكز التوثيق وشبكات الصناعات المختلفة وغير ذلك من الشبكات . وأصبح المجتمع الذي لا يعتني بتشبيك مؤسسات المعرفة مجتمعاً متأخراً عن الركب الاقتصادي العالمي..
لقد أتبع الشناقطة الأوائل طرقا تنطلق من مبدأ الإحاطة الشاملة التي تذكيها إرادة صلبة في مقاومة جميع الظروف المعيقة للتعليم والتحصيل، لذلك كانوا يستظهرون كل المتون التي تقع في أيديهم بغض النظر عن موضوعاتها....
وعلى الرغم من بداوة الحياة وشظف العيش وانعدام المؤسسة المركزية، فقد حصّل الشناقطة علوما ومعارف كثيرة شملت مختلف جوانب الثقافة العربية والإسلامية، تجاوزتها أحيانا لتجيب على ما تطرح الحياة الشنقيطية من جزئيات ونوازل كان العقل يجتهد في صياغة أجوبة عنها معتمدا على معارفه، منطلقا من أصله الشرعي وآليته العقلية في قياس الشاهد على الغائب...(3)
ورغم هذا التسيب فإن الثقافة الموريتانية استطاعت أن تفرض للمثقفين الاحترام والتبجيل في ظل مجتمع لم تكن فيه سلطات يأوي إليها المظلوم , ولعلنا نجد آثارهم في المشرق العربي كأعمال ولد التلاميذ الشنقيطي حيث أعتمد كسفير فوق العادة ممثلا لسلطان عبد الحميد في استكهولم السويد أنظر الوثائق..الصور:1,2
وكذالك في مصر والحجاز وأعمال محمد لمين الشنقيطي في مصر.. والأمين الشنقيطي في العراق وأولاد ماياب في الأردن وبهذا تصدق المقولة أن موريتانيا لا يمكنها أن تحقق شيء إلا بالثقافة...
ويكون هؤلاء الشناقطة قد حققوا بالكلمة والمعلومة مالم تحققه الحكومات على مدى 57سنة, فعلى مدى عقود من الزمن وموريتانيا تفتح في السفارات وتبعث بالسفراء وتنفق الملايين,, وفى الأخير تتفاجأ بأن هؤلاء أصبحوا سفراء حقائب, يقضى الواحد منهم ما شاء أن يقضى في الخارج في ترف منقطع النظير. وعندما تحين العودة إلى الوطن تمتلئ الشنط بما غلا ثمنه وخف وزنه, بدليل ما نشاهده الآن على شاشات الفضائيات العربية والدولية من استهزاء وتلكأ بكل ما هو موريتاني.
وهذا ما يوضح تقصير هؤلاء السفراء عن دورهم المنشود في التعريف بالبلد..وهم الذين استنزفوا خيرات هذا البلد عبر عقود..
فيكفي أن نعمل جردا عاديا لرواتبهم وميزانياتهم التي تجاوزت ما وراء البحار على مدى 50 سنة, لتتبين مدى خلل التفكير عند هؤلاء
ولا ينبئك مثل خبير، فسفراؤنا الحاليين والمتقاعدين عندهم خبر اليقين...
لكن تاريخ اليوم لا يكتبه الأجداد، ولا يتحرك على الأرض طبقا للأماني والأقوال في مجتمع فقد فعاليته وفقد معها قدرته على قراءة الأحداث الماضية منها والجارية، فضلا عن المستقبلية وتحول إلى ظاهرة صوتية تقول ما لا تفعل، وتسمع فلا تدون، وإن هي دونت فلن تقرأ، لأنها هجرت التحصيل العلمي..
إننا نبحث عن العلة الكامنة في الذات، فإن نحن نجحنا في معالجتها فإن المشكلة ستزول - تلقائيا- بزوال أسبابها وإن تجاهلناها وعالجنا الظواهر فقط، فستعاودنا بأشكال شتى،كمن يتوجه إلى البعوض بأطنان مبيدات الحشرات، ولا يفطن إلى تجفيف المستنقع الذي يحتضن بيوضها فلا تلبث أن تفقس من جديد..
إن أول شيء هو إعادة الثقة في الثقافة، والمثقف، والاستفادة من أصحاب العقول، وتوظيفها، وتنميها، ومساعدة أصحابها، على النهوض والتغلب على العراقيل التي تعترض سبلهم ولا شك أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى النهوض بالبلد، وجعلها في مصاف الدولة المتقدمة، فالمواهب ثمينة جدا، وجديرة بالتشجيع، والتنمية، كائنة ما كانت، ولا ينبغي إهمالها، ولا تجاهلها، سواء كانت فنية، أو أدبية، أو علمية....
. فالإنسان الموهوب، أكثر فائدة لنفسه، ومجتمعه، من ملايين البشر، ممن لا يتمتعون بالموهبة. فمن غير المعقول معالجة الملفات السياسية، بدون ركائز ترتكز عليها. والثقافة للناس أشبه بالسلاح للمقاتل الذي يمنح لصاحبه معنى من القوة والمتعة لا يجده في غيره
إن من لم يسلح نفسه بالعلوم والتقنية والبحث العلمي سوف يصفع ويداس وسوف تفرض عليه أجندة لا يرغبها ولكنه سوف يضطر إلى القبول بها لذلك فإن استخدام البحث العلمي في إيجاد المخارج للمشاكل القادمة يجب أن يبدأ من الآن...
وما دامت دولتنا فاقدة لركيزتي ، التعليم والبحث العلمي ، فإنه من الصعب عليها أن تحافظ على توازنها الذاتي، مع تلبيتها لمطلبي الثبات والتغير. وبوجود خلل في هذه العوامل فستصاب حتما بالتقادم وبالتالي العجز...
ومايطلبه الباحث هو توفير العيش الكريم على غرار الكثير من الدول التي تحترم نفسها مقابل ماينتج من بحوث لصالح الدولة الموريتانية كشخص معنوي دائم...
منذ عقود وأنا ضد هجرة العقول وكنت أناقشهم في أسباب هجرتهم وكانوا يقولون أنهم يفتقرون لأدنى حد من العيش الكريم وكأنهم لاجئون أوغرباء في وطنهم,, وأن العمر يمر وأنهم لم يعملوا شيء في هذه الحياة,ذهب البعض والبعض ينتظر... و بمرور الأيام وبالنظر إلى مايعانيه الباحث اليوم وما أعانيه شخصيا أصبح ينتابني شعور أنهم كانوا على حق‼وأنني كنت المخطأ..‼
فهل تتدخل الدولة وتدعم هذه القدرات المهدورة التي تعيش مأساة حقيقة أم أنها ستتركها تهاجر إلى الخارج غير مأسوف عليها؟
الهوامش:
(1) كتاب:تائه يبحث؟‼تأليف مشترك مع العلامة حمدا ولد التاه حاولنا من خلاله ايجاد جسور التقاء بين التعليم النظامي والتقليدي لننشأ حداثة مبنية على أصالة، ومعاصرة مبني على تراث؟؟
(2) دين الفطرة :استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة انسانية,المرابط ولد محمد لخديم,تصدير الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه, رئيس جامعة شنقيط العصرية والشيخ الدكتور أمين العثماني عضو اللجنة العلمية والتنفيذية للأكاديمية الهندية بدلهي الهند,تقديم :الأستاذ الدكتور :أحمدو ولد محمد محمود,رئيس قسم الفيزياء بكلية العلوم والتقنيات جامعة أنواكشوط,والمفكر الاسلامي,سمير الحفناوي جمهورية مصر العربية,الطبعة الأولى الأكادمية الهندية بدلهي سنة 2010م الطبعة الثانية :دار المعراج,دمشق/بيروت سنة 2014م.
(3): الموكب الثقافي: الجمعية الوطنية للتربية والثقافة والعلوم: العدادان 4.5 مايو 1996م (بالتصرف)