تعيد أحداث العنف الأخيرة في بعض مدن الضفة الموريتانية القلق على مستقبل البلاد، ويأخذ القلق أبعادا مختلفة بعد سقوط مواطن موريتاني قتيلا برصاص من يفترض فيهم حماية الوطن، وبغض النظر عما سيقوله الجميع تعليقا على الأحداث المشتعلة، مساندة أو معارضة.
فإن على الجميع أن يدرك أننا بصدد طبعة جديدة من كتاب الأزمة العرقية المفتوحة، وبالتالي نحتاج إلى علاج ناجع لا مهدئات نسبية، ولا عمليات قيصرية تؤدي إلى مزيد من الآلام وتفاقم أزمة المجتمع.
وطوال الفترة الماضية فإن النخبة الحاكمة تعاملت بمنطقين يتسمان بالعور السياسي، عندما جعلت من القوة الوحشية سلاحا وحيدا لحل الأزمة العرقية، خلال عهد ولد الطايع، أو من الاعتذار الأجوف والتخبط السياسي منهجا آخرا في الحقبة العسكرية الثانية التي تلت الإطاحة بالعقيد ولد الطايع.
أما النخبة السياسية من المعارضة وتيارات العمل السياسي، فقد تعاملت بكثير من المجاملة والنفاق السياسي تجاه هذا الملف الحساس، ورغم أن هنالك حقائق كبرى وأزمة قوية ينبغي نقاشها بموضوعية وللأسف فإن السياسيين –للأسف- لم يكونوا يرغبون في قول كل ما ينبغي قوله تجاه هذه الأزمة تماما كما لم يكونوا مستعدين لسماعه أيضا.
نحن أمام أزمة كبيرة دخلت إلى الواجهة من بوابة الإحصاء البيومتري الذي يعُده الرئيس ووزير الداخلية من حسنات الدهر الخالدة، والإنجازات التي تستحق الإشادة، وقد يكون في الأمر نسبة من الدقة، وجزءا من الصدقية، غير أن طريقة الإخراج والظرف السياسي لم يكونا في صالح هذا الإحصاء الذي يخشى أن لا يكون في صالح الوطن بإطلاق.
لكن الحقيقة التي تتكشف من خلال وتيرة العنف المتزايد، أن الإحصاء والاحتجاج حوله ليس إلا نافذة واحدة من نوافذ الأزمة العرقية المزمنة، إنها نافذة صغيرة أريد لها أن تكون مخرجا لكل المطالب الأخرى لكل الإحن القديمة والأضغان الخالدة، بين شرائح المجتمع، هي أحقاد قديمة، لم تنشئها الدولة الوطنية، ابتداء لكنها منحتها عمرا أضافيا ومحاور جديدة للاشتعال.
عند ما رفعت مجموعة من الشباب الموريتاني شعار "لا تلمس جنسيتي" رافضة لإقصاء واقع أو مفترض، تتخوف من أن يطالها فيحرمها جنسية وطن، لم يجد مواطنوه إلى الاندماج وتحقيق الهوية الجامعة في أي يوم من الأيام سبيلا، لم يكن الأمر إلا دورة جديدة لزمن العنف والتأزيم الاجتماعي في موريتانيا، ذلك الزمن الذي يأخذ كل فترة اسما جديدا وعنوانا جديدا.
وهنالك أطراف كثيرة تدفع إلى التأزيم، أولئك الذين يحركون عشرات الشباب الغاضبين ويوهمونهم بأنهم سيفقدون الرقعة الأخيرة من وطنهم الصغير، وأولئك الذين طالبوا منذ قديم بالانفصال عن وطن لا يرون فيه – كما يعبرون دائما – أي معنى للانتماء والندية والمساواة، لا في الهوية ولا اللغة ولا الماضي ولا المستقبل، أما الحاضر فالأصل أن "لا تُحدث عن حاضر" هو ناطق بنفسه وصريح في ما يعبر عنه.
هنالك أيضا أطراف كثيرة ستصور الأمر باعتباره انتقاما من الجار الجنوبي أو من الكيان الصهيوني أو من أي دولة أخرى في العالم لا تشاطر "القيادة الوطنية" أفكارها في إعادة بناء موريتانيا على غير مثال ولا هدى مستقيم.
بين هذا وذاك يمكن القول إن المطالب التي رفعها المواطنون "لكور" شرعية في أغلبها، وتستحق النظر، وتستحق أكثر من ذلك أن تقدم بلغة تدفع الجميع إلى قبولها أو على الأقل الاستماع إليها، وعندما يمطر المحتج مستمعيه بالحجارة، فليس من حقه أي يتوقع أي مساندة، إذا لم تصله حجارة أخرى ولهيب مستعر، وعندما يطلق الدركي النار على مواطنه المحتج، فلا يستحق هو الآخر غير المحاكمة والقصاص العادل منه وممن أصدر إليه الأمر بإطلاق النار، وبين هذين ألا يستحق هذا الوطن تظاهرة سلمية، وشرطة ودركا لا يتبجح بقتل مواطنيه.
لكن أزمة الإحصاء الأكثر – رغم أهميته القصوى – أنه يأتي محاطا بعاملين سلبيين:
- الأزمة السياسية المتفاقمة بين النظام والقوى السياسية، والتي ستقضي بشكل دائم على كل الأفكار والمبادرات الإيجابية من الطرفين لأن عين "السخط السياسي " ستدفع إلى كثير من العداوة لكل ما يقوم به النظام الذي يوفر في الغالب فرصا كثيرة لخصومه السياسيين ليقولوا – بجدارة – إنه يسير بموريتانيا نحو طريق مجهول.
- أما العامل الثاني فهو إيديولوجيا الاحتكار التي يتعامل بها النظام مع الملفات الحساسة، ويحولها إلى قضايا خاصة، يمنح بها الثقة لبعض مقربيه السياسيين والاجتماعيين ويضع بين أيديهم مقدرات البلد ومستقبله، ليتلاعبوا به كما يشاءون.
سلطة اللون الواحد
لقد كان الخطأ القاتل الذي وقعت فيه السلطات المتعاقبة على حكم البلاد أنها قدمت نفسها في الغالب – على الأقل من خلال اللون والممارسة –باعتبارها ممثلة لشريحة البيظان، دون أن تستشيرها في ما تفعل ولا ما تقدم عليه، لقد كانت النتيجة أن الدولة صبغت ممارساتها العنصرية والإقصائية بلون "أبيض" وصبغت للأسف مجتمع البيظان بأخطائها، وعرضته بشكل دائم لأن يدفع ثمن نقمة الغاضبين من الفئات الأخرى، إنهم في المحصلة يدفعون ثمن أخطاء الأنظمة الفاشلة، ويتلقون الغضب الموجه إلى تلك الأنظمة أيضا.
كان الكثير من أبناء الشريحة البولارية - بشكل خاص- في موريتانيا ينظرون إلى صلوات الرئيس ووزرائه في كيهيدي قبل سنتين على أرواح الضحايا، باعتبارها مسخرة لا أكثر "فلم تكن تلك الصلوات" بحسبهم إلا مكاء وتصدية، ولم تكن الأيدي التي ارتفعت بالدعاء حينها إلا "يدا تسبح وأخرى تذبح" هذا ما نشأ عليه أولئك وما يسعى قوميون زنوج متطرفون دائما إلى ترسيخه، لكن الراسخ الأكثر وضوحا أن "ردم الدماء" ببعض القرابين والصلوات التائهة لن يؤدي إلا إلى تفجرها من جديد.
لقد كان أولئك الشباب الغاضب الذين اعتدوا بكل عنجهية وإرهاب على مواطنين بيض ليحرقوا سياراتهم وينهبوا دكاكينهم يتصور أنه يحرق الدولة التي يعتبرها عدوا، وفي كلتا الحالتين فإن أي حراك سياسي يعتمد الإرهاب أو الحرق والتدمير لا يستحق غير المعارضة والاستنكار.. بل قد يستحق المواجهة.
تاريخ دموي
أما على صعيد التاريخ، لم تكن العلاقة بين المجتمع البيظاني ومجتمع التكرور أو البولار أو الفلان علاقة مودة بشكل كامل، كان هنالك دائما تاريخ دموي بين الطرفين، فعلى سبيل المثال شهدت ضفاف نهر الركيز، وغيضات العويجة، مجازر متبادلة بين قبائل ومجموعات من البيظان، وزعامات وسلط من الفلان والبولار، من بينها مجزرة "تن آذمة" المشهورة، كما أن المختار ولد حامدن يتحدث عن "80 من أماجد التونكليين قتلهم الفلان في منطقة الترارزة".
وفي المقابل يتحدث المؤرخ الكبير صيدو كان عن بقايا أسر من البيظان في قرية انتيكان الحالية، خضعوا للاسترقاق الكامل بعد وقوعهم في الأسر، وعن عشرات آخرين من البولاريين الذين قتلوا في تلك الحروب أو أسروا وحولوا إلى عبيد في مدن وقرى كثيرة من موريتانيا.
وفي الماضي القريب، لم تكن المجازر التي نفذها نظام العقيد معاوية ولد الطايع ضد البولار بشكل خاص إلا وجها بشعا من أوجه التناقض البشع، ولم تكن تلك الجرائم الكبيرة إلا وجها آخر من صراع اجتماعي راسخ في التاريخ والإيديولوجيا الاجتماعية السائدة، انتقل لاحقا ليكون مواجهة مع السلطة أو الدولة التي رأى فيها الزنوج الموريتانيون ممثلا.
إن العقلية الجمعية في موريتانيا في الغالب تقوم على مستوى من التمايز والاصطفاف الحدي بين الزنوج البولاريين وبين مجتمع البيظان في الغالب ولدى الطرفين من القصص والأمثال ومن الوقائع والشواهد ما يهيئ الجيل الحالي والأجيال التي تليه لمزيد من العداوة والتناقض.
أما النخبة الواعية من الشريحتين أبدعت - وللأسف الشديد- ليس فقط في حماية الماضي ونفخ الروح في ناره الملتهبة، ولكن في تحديث عناصره السلبية ومنحها فرصا كثيرة لأن تتحكم في الرؤية وتصوغ ذهنية الجيل الحاضر.
نحن للأسف أمام حصيلة سلبية لفشل المجتمع والسلطة في بناء وطن يسع الجميع، وأمام حصيلة زرعها أخوة متصارعون وشركاء متشاكسون، وفي الغالب فإننا نتصور مشكلاتنا صغيرة جدا أمام "الحكمة والرشد" الذي يتمتع به القائمون على الحكم وبالتالي تنتج حلولا صغيرة قصيرة العمر، ضعيفة التأثير.
أزمة الجنسية
لنتفق على أن الجنسية هي حق كبير ليس منة من رئيس ولا وزير داخلية ولا حتى تاجر غاز، لكن وضعية أخرى تستحق الاتفاق وهي أن الجنسية الموريتانية خلال السنوات الماضية، بل خلال سنوات طويلة، كانت سوقا رائجة لمن يدفع أكثر، إن عشرات - إن لم يكن مئات- الأجانب من جنسيات مختلفة أغلبها إفريقي حصلوا على الجنسية الموريتانية مقابل مبالغ زهيدة، كما أن آلاف آخرين من الموريتانيين لم يحصلوا على جنسيتهم المستحقة لأسباب كثيرة بعضها سياسي وبعضها باختيار ذاتي ويمكن القول في هذا الصدد.
- إن مئات الزنوج "أو لكور" الذين هُجِّروا خلال سنوات القمع لم يحصلوا على الجنسية، ذلك إن عددا كبيرا من القرويين الذين طردوا خارج موريتانيا لم يكونوا قد حصلوا حينها على أوراق ثبوتية، كما لم يحصلوا عليها أثناء سنوات النفي ولا بعدها أيضا.
- أن مئات الموريتانيين في مناطق عديدة، في شمامة وفي قرى الحوضين لا يتمتعون بأوراق ثبوتية ولا جنسيات، ولأن أغلب هؤلاء بداة ولا يحملون أي وثائق، لكنهم لم يتظاهروا طلبا للجنسية لأنهم في الغالب يجدون في أبقارهم التي يقتلها الجفاف غنية عن الدولة.
- أن هنالك تداخلا اجتماعيا بين المجموعات السكانية في موريتانيا وامتداداتها الطبيعية في دول الجوار، آلاف البيظان يجدون امتداداتهم الاجتماعية في المغرب والصحراء، ضمن امتداد طبيعي سبق الدولة الوطنية، كما أن مئات الزنوج الموريتانين تمتد جذورهم وأواصرهم الاجتماعية عبر ضفاف النهر السنغالي باتجاه مدن وقرى عديدة في السنغال أو مالي وحتى في دول أخرى، إن التاريخ الاجتماعي المتداخل بين موريتانيا الحالية وجوارها العربي والإفريقي يقرأ بهدوء على مسامع الجميع "ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد".
وعلى سبيل المثال ضمت حكومة المختار ولد داداه، وزيرا زنجيا بينما كان شقيقه وزيرا في حكومة السنغال، وقبل سنوات رمى مسؤول سام جنسيته الموريتانية وعاد "ضمن العائدين " إلى المغرب حيث أصبح رجلا أثيرا لدى العرش العلوي.
هنالك عشرات الموريتانيين الذين ينتمون لآباء من جنود المستعمر ويحملون أسماء آباء أوربيين، فهل سيتم حرمانهم من الجنسية أيضا.
ألا يحق التساؤل أمام هذه الوضعية، هل علينا أن نمنح الجنسية لكل "أقارب المواطنين" وشركائهم في اللغة أو اللون، أم علينا أن نبحث عن مواطن لا جذور له في أي اتجاه، سنحصل حينها على أشخاص قليلين جدا، وطبيعي لن يكون منهم رأس النظام ولا أغلبية وزرائه ولا الهيئة القائمة على الإحصاء، ولا بعض النواب والمسؤولين والوجهاء وعامة الشعب من كل الفئات دون استثناء.
وأمام كل هذه الأخطاء المتراكمة، من المرشح لدفع الثمن الغالي، ومن سيتحمل مسؤولية إعادة الأمور إلى وضعيتها الطبيعية، وهل ينبغي أن نظل بين خيار: الفوضى الإدارية والتسيب، لترمينا إلى ضفة الأزمة العرقية والحرب الأهلية.
إلى العقلاء
الطريق الأوحد لحل الأزمة التي نعيشها اليوم هي الاعتراف بأننا نعيش أزمة سياسية عميقة وخالدة، توارثتها أجيال عديدة منذ مئات السنين، ومنحها المجتمع رسوخا دائما.
- وأكثر من ذلك نحتاج إلى – فترة نقاهة سياسية- يتم خلالها تعليق الإحصاء الحالي لا بهدف التراجع النهائي عنه، ولكن من أجل طمأنة الجميع أنه لن يفقد وطنه ولا جنسيته خلال الطبعة الجديدة من الموريتانيين.
- نحتاج مناصحة كبرى، لكننا نحتاج أيضا مصارحة بشأن قضايانا الأساسية، حتى لا نصل إلى تنويم يعيد تفجير القضية من جديد.
- نحتاج أياما وطنية كبرى مفتوحة، أمام النخبة السياسية، بمتطرفيها ومعتدليها ليتحدثوا بكل أمانة عن سلبيات الإحصاء وإيجابياته، وليخرجوا من ذلك برؤية توافقية تخدم الدولة والوطن والمواطن، فهل من مستجيب.